مع الحكماء


((التصاوُن – وفي رواية: الوقار- في النزهة = سُخف)).

الشافعي.

((من وضع العمامة على الرأس، والنعلين في الرجلين = فقد وضع كل شيء موضعه)).

ابن تيمية.

الحكمة ضالة المؤمن، بل هي ضالة كل عاقل كما ينبغي أن يكون. كلنا يسعى إلى أن يكون حكيمًا، ويحب أن يتصف هو وتصرفاته بالحكمة، فقد قال الله تعالى: (يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا).

الحكمة هي وضع كل شيء في موضعه المناسب له. فيشتد الإنسان فيما يستحق الشدة، ويتساهل فيما حقُّه التساهل. ويجِدُّ فيما يطلبه الجِدّ، ويهزِل فيما يزينه الهزل. وينتبه للخطير ويتغافل عن الحقير. ويبادر بواجب الوقت، ويؤجل ما يحسن تأجيله. فليس التأجيل دائمًا حكمة، وليس الإحجام دائما حكمة، بل قد يكون بعكس ذلك.

فالحكمة هي الفضيلة التامة العامة الشاملة، التي تقدّر – تحكم – المنسوب المطلوب من الفضائل المختلفة. فعلى سبيل المثال: يقول ابن القيم عن الشجاعة، التي قد نتصور منها دائمًا معنى الإقدام والهجوم: (الشجاعة: خلق كريم من أخلاق النفس، تترتب عليها أربعة أمور، وهي مظهرها وثمرتها: الإقدام في موضع الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام، والثبات في موضع الثبات، والزوال في موضع الزوال. وضد ذلك = مُخل بالشجاعة، وهو: إما جبن، وإما تهور، وإما خفة وطيش).

المعنى المهم الذي أريد بيانَه يتلخص في أن الحكمة ليست نمطًا واحدًا موحدًا جامدًا من التصرفات، تُفعَل في كل موضوع بنفس الطريقة، فتكون حكمةً من حكيم، وإذا خولفت تصبح طيشًا أو تهوُّرًا أو جهلًا.

الحكمة هي فقط وضع الشيء في موضعه. قد يبدو لك ذلك الشيء مستغربًا، كبيرًا أو أكبر، صغيرًا أو أصغر، مهمًا أو أهم، قبل أو بعد، قد يبدو لك مستغربًا حتى بغضِّ النظر عن تلك التفاصيل، لكن هذا كله لا يعني ولا يستلزم أنه خلاف الحكمة.

يقول ابن تيمية: ((الصانع إذا أخذ الخشبة المعوجة، والحجر الرديء، واللبنة الناقصة؛ فوضعها في موضع يليق بها ويناسبها = كان ذلك منه عدلًا واستقامةً وصوابًا، وهو محمود، وإن كان في تلك عوج وعيب هي به مذمومة. ومن أخذ الخبائث، فجعلها في المحل الذي يليق بها =كان ذلك حكمة وعدلًا. وإنما السفه والظلم = أن يضعها في غير موضعها. ومن وضع العمامة على الرأس والنعلين في الرجلين = فقد وضع كل شيء موضعه ولم يظلم النعلين إذ هذا محلهما المناسب لهما)).

الحكم على الشيء بكونه خلاف الحكمة ينبغي أن ينبني على علم ودراية إذن. علمٌ بالتصرف، وعلمٌ بالموضع الذي نمارس فيه هذا التصرف. وساعتها – فقط – يمكن أن نصف تصرفًا ما بالحكمة من عدمها. وهذا العلم قد يكون معرفًة نظرية، وقد يكون خبرة متعلَّمة. المهم أن الحُكم – أي حكم – يحتاج إلى معرفة. ودون ذلك فنحن مجرد كسالى أو مغفلين أو مغرضين – وإنما الأعمال بالنيات – نسعى لتصنيف كل ما يفعله غيرنا في قوالب جاهزة وخانات جامدة.

يمكننا أن نفهم الآن أن المشكلة الحقيقية حول هذا الموضوع تكمن في أن مفهومنا للحكمة هو في الواقع مفاهيم مختلفة، تتدخل فيها عوامل كثيرة متنوعة بين ما يتعلق بالشخصية، وما يتعلق بالظروف.

وبناء على ذلك فإن هناك أنواعًا مختلفة من الحكماء تبعًا لاختلاف فهمنا للحكمة. ولذلك فنحن – وبصورة أو بأخرى – دائمًا محاطون بالحكماء، فمَنْ مِن الناس لا يعتبر نفسه حكيمًا؟!

أولئك النماذج الخاصة من الحكماء الذين نقابلهم في حياتنا؛ لعله من الحكمة – أيضًا – أن أشير إليهم، وأبيّن معنى حكمتهم.

أولئك الحكماء الذين لا يلتزمون بضابط محدد؛ أصنافٌ هم. ولعل في تصريحي بتلك النماذج في حد ذاته، نوعًا خاصًّا من أنواع الحكمة أيضا.

هناك ذلك النوع من الحكماء الذي يكرر بمهارة، وصبر؛ نصيحةً على غرار: (لا داعي للكلام في هذا الموضوع – أو بهذا الأسلوب – أو بهذه الكثرة – أو في هذا التوقيت).

إنه يكرر تلك النصيحة، حول جميع الموضوعات، وبنفس الأسلوب، وبكثرة، وفي كل توقيت. ولا يعتبِر ذلك مخالفًا للحكمة بكل تأكيد.

هذه نصيحة دائمة وجاهزة ومجرَّبة وصالحة للاستعمال باستمرار دون فترة صلاحية. وهذا فضلًا عن أن لها ميزتها الرائعة ورونقها المدهش، فهي تضعك مباشرة، وفورًا، في نقطة مركز دائرة الحكمة دون استئذان.

لو ظللت صامتًا دهرا.. دهرًا كاملًا دون مبالغة، ثم تكلمت في موضوع ما، بأسلوب ما، بكمٍّ ما، في توقيت ما؛ لقفزت في وجهك النصيحة ذاتها، كثعبان العلبة، مهما كان الكم أو الكيف أو التوقيت.

(كم الكم؟ وكيف الكيف؟ ومتى التوقيت؟) دعك من هذه الأسئلة الفلسفية العقيمة الآن!، نحن ننطلق من نقطة أن فعلك غير ملائم أساسًا ولا يتفق مع الحكمة.

إنها الرغبة اللذيذة في التأجيل المطلق، السرمدي، إلى ما لا نهاية. التسكيت لننعم بالهدوء جميعًا. و((كثيرا ما يشتبه الورع بالجبن؛ إذ كليهما كف وإمساك)) كما يقول ابن تيمية. نصيحة صالحة ومجربة، وتروق أغلب الناس بطبيعة الحال لأنها مريحة. ومن ذا الذي يكره الراحة؟

نحن لا نبتغي أن نمنع أحدًا من إثارة سؤال التوقيت أو الأسلوب؛ إلا أن الحقيقة أن تسعة وتسعين بالمائة ممن يطلقون هذا السؤال هم من هذا الصنف من الحكماء.

يمكن أن نقبل ذلك النوع من الحكمة بشرط أن يبين لنا هؤلاء الحكماء – بيانًا واقعيًّا متحققًا في دنيا الناس – التوقيت المناسب، والأسلوب المناسب للكلام. وأن نجد هؤلاء الحكماء قد قَبِلوا – مرةً – الكلام الذي لا يحبذونه؛ لأن توقيته أو أسلوبه جاء مناسبًا.

منفعة الكلام، يجب أن تغلّب على المضرة التي يخافها ذلك النوع من الحكماء. فاحتمال أن تخطئ مرة من الألف = خير من احتمال أن تصيب مرة من الألف، أليس كذلك؟

وهناك ذلك النوع من الحكماء الذي يقول لك بلغة الخبير ذات المغزى: (لا تعمِّمْ). حتى إن قلتَ مع كل نَفَس من أنفاسك: (بعض، وجزء، ومِنْ، وقدْ، ورُبَّ، ولعلَّ)؛ فإن هناك (لا تعمم) أيضًا، لا فرار منها ولا نجاة.

من الصحيح أنه يمكننا أن نجابه ذلك النوع من الحكماء بألعوبة لفظية من قبيل: ولا تعمم أنت أيضًا في قولك: (لا تعمم)، أو: أن نشرح له أن الكلام بالعام من الكلام ليس معناه الاستغراق والشمول، وأن المهملة الكلية في قوة الجزئية، وأن القرآن يتكلم عن بني إسرائيل وأهل الكتاب والكفار وأهل مكة والناس والإنسان والمؤمنين بأحكام عامة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم عن أهل الوبر، وأهل الإبل، وأهل الفلاحة، بكلام عام، ولم يفهم من ذلك أحد الشمول والاستقراء، وأن ((من فصيحِ الكلام وجيِّدِه: الإطلاق والتعميم عند ظهور قصد التخصيص والتقييد، وعلى هذه الطريقة الخطابُ الواردُ في الكتاب والسنة، وكلام العلماء، بل وكل كلام فصيح، بل وجميع كلام الأمم؛ فإنَّ التعرُّضَ عند كل مسألة لقيودها وشروطها =تعجرفٌ، وتكلُّفٌ وخروجٌ عن سنن البيان، وإضاعةٌ للمقصود، وهو يعكِّر على مقصود البيان بالعكس)) كما يقول ابن تيمية، أو أن نبين له أن المقصود أصالةً الكلام عن الظاهرة العامة والملاحظة المنتشرة التي تشكل خطابًا للموضوع أو سمة أساسية فيه، ولو لم يفعلها كل الناس الموصوفين به أو حتى أغلبهم.

ولكن الأهم من ذلك أن نعلم أن ذلك النوع من الحكماء لا يقصد بالضبط عدم التعميم، بقدر ما يعني: (أنني وجميع مَنْ أحبهم لسنا مشمولين بهذا الكلام). وإذا تغاضينا عن ذلك، فهل (هذا الكلام) صحيح أم خطأ؟ ساعتها سيُبدي الحكيم تحفظه على الكلام نفسه أيضًا. فهل كان الإشكال – يا حكيم – في التعميم؟ أم في الكلام نفسه؟ أم في براءتك وأصحابك؟

وهناك ذلك النوع من الحكماء الذي بإمكانه أن يشعرك بلباقة أنك لست أكثر من مجرد  أحمق، ثم يتفضل عليك بأن الآخر أحمق كذلك!

(لا عليكما يا صغاري، الواجب الآن أن نتصالح، ونقبل على رأس بعض).

(وعلى الطرفين وقف إطلاق النار).

أما ذلك النوع من الحكماء فهو يقول لكما، دون كلام: (أنا عاقل وأنتم حمقى، كلكم، ولكنني لا أريد أن أقول ذلك لأنني أعقل منكم!، ولأنكم حمقى أيضا كما اتفقنا من قبل).

(ألم نتفق؟!).

وهناك ذلك النوع من الحكماء، إنه الحكيم الرياضي؛ المهندس الذي ضل طريق خوازيق البنايات ليدقها خوازيقَ في قلب الحكمة الدامي.

هو أيضا من الحكماء الجديرين بالثقة. كيف لا تثق به وهو سيعطيك شيئا مما تحبه. الثقة ستعم الجميع؛ لأن العطية ستكون للجميع.

 

= (في كم قضية تختلفان؟ أربع؟ خلاص! لا حرج، أنت مصيب في اثنتين وهو كذلك).

= (طيب خمس؟! سنقسم البلد نصفين، اثنتين ونصفًا واثنتين ونصفًا).

= (لا تخافوا! كل الأرقام قابلة للقسمة. وكل المواقف).

وهناك ذلك النوع من الحكماء الذين لا يُعجبهم العجبُ ولا الصيام في رجب – وقد يقول إن أحاديث صومه ضعيفة -، وهو الذي يعتقد أن جميع الآخرين ليسوا حكماء، ولذلك فإنه يفضِّل أن يسخر من كل شيء، وأي شيء. يسخر من الجاد في جدِّه، والهازل في هزله. يمزح على من يمزح، ويعبس على من يعبس. ينتقد من ينتقد لأنه ينتقد، ومن لا ينتقد لأنه لا ينتقد.

حالة الفصام المشعشعة عند ذلك النوع من الحكماء تغشي عنهم الرؤية. ينعون على كثرة الانتقاد، وهم متفرغون لانتقاد المنتقدين، وحصر الأنفاس على المتكلمين. ما الضير أن يدعوا انتقاد المنتقدين وكلام المتكلمين ويتفرغوا بحكمتهم لما ينفع البشرية الخرقاء؟

وهناك ذلك النوع من الحكماء، الذين يبدون شموليِّين، يريدون من الإنسان أن يقول كل شيء عن كل شيء، أو فليخرس إلى الأبد.

إذا تكلمت في الهزل، أو في الرياضة، ونحوها من المساخر؛ قال في لهجة ملتاعة: (ولم لا تتكلم فيما ينفع الناس؟)، فإذا تكلمت في الاقتصاد والفلسفة وغيرها من العلوم الملعونة، قال في لهجة محذرة: (ولم لا تتكلم في الدين؟)، وإذا تكلمت في الدين وأحكامه الخاصة، قال في لهجة متهِمة: (ولم لا تتكلم في السياسة؟)، وإن تكلمت في السياسة بحسب اجتهادك؛ قال في لهجة ظافرة: (كلامك غافل، أو سفيه، أو مأجور) بطريقة أخرى: (ولم لا تقول ما أريده حول ذلك الموضوع؟).

هكذا اظهر على حقيقتك أيها الحكيم! لم يكن البأس في ما أقوله، ولكن كان في الذي أردت مني أن أقوله ولم أقله.

ولو أنني اقتصرت على ما تريده، ووافقتك فيما تهواه؛ فلن تسألني عن الذي لم أقله، عوضَ أن تسألني عن صحة الذي أقوله.

لا أظن أن هناك أسخف ممن يحب أن يحمِل الناس على الاهتمام بنفس اهتماماته.

نسيت أن أذكر، من فرط السخافة ربما: أن هذا أيضا نوع من الحكماء.

الأستاذ عمرو بسيوني

 

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد