حلاوة الإيمان


عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسولُهُ أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذفَ في النار». أخرجه الخمسة إلا أبا داود.

شرح الغريب:

 

 

 

 

ما سوى الله ورسوله يشمل الأموال والأولاد والوالدين والأزواج وجميع مباهج الحياة الدنيوية وقد جاء مصداق هذا في القرآن الكريم يقول عز من قائل ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].

إن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها ولما كانت الحياة ومتعها من الأموال والبنين والأنساب والقرابات كلها هبة من الله سبحانه وتعالى، فهو الخالق الرازق، النافع الضار المحيي المميت كل شيء بيده. بل هو الهادي إلى سواء السبيل الموفِّق للطاعة والعمل الصالح وهو يثيب على الطاعة والعمل الصالح الجنة. إذا أدرك المؤمن كل ذلك أدرك أن حب الله لا ينبغي أن يعلو عليه حب وأن الولاء لله لا يقدم عليه ولاء. وإذا أدرك المؤمن أن طريق هذه الخيرات الدنيوية والأخروية هو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أدرك أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يقدم على كل حب سوى حب الله عز وجل.

بل جاء التأكيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون حبه مقدماً على حب الإنسان ذاته. فقد جاء في الحديث الشريف عن عبدالله بن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخذاً بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر[1].

وحقيقة المحبة ميل القلب إلى كل ما يرضاه الإنسان ويستحسنه. وبواعث المحبة مختلفة:

 

 

 

وكلما اجتمعت البواعث في شخص أو جهة كانت المحبة أقوى وأحكم، وإذا انفرد باعث واحد كان أقل.

 

ولو نظرنا إلى محبة الله ورسوله لوجدناه قد اجتمع فيها باعث الطبع والعقل والمصلحة فالكمال المطلق لله تعالى وإن الله جميل يحب الجمال وهو المنعم المتفضل علينا بكل المنافع التي ننتفع بها، يقول عز من قائل: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، ويقول جل جلاله: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: 18]، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى، فليس بعد الله جل شأنه أحد أمنّ علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته شعبة من محبة الله تعالى.

والمحبة تورث الاتباع والطاعة فمن زعم أنه يحب الله ورسوله ولم يلتزم طاعة الله واتباع رسوله كان كاذباً في دعواه، فإن المحب لمن يحب مطيع.

يقول عز من قائل: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾  [آل عمران: 31-32].

 

الصفة الثانية: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله:

من تمام إيمان المرء أن يكون حبه وبغضه في الله ولله، ولا يكون في ذلك تابعاً لحظ النفس والشيطان، بل يكون دائراً مع الحق حيث دار، فيحب أهل الاستقامة والصلاح لأنهم على حال ترضي الله تعالى، ويبغض أهل الفسق والعصيان لانحرافهم وفجورهم ولأنهم على حال تغضب الله تعالى. ولا يحب أو يبغض الشخص لذاته. وإذا تحول من المعصية إلى الطاعة أحبه. فعندئذٍ يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به»[2]. وعندئذ يكون قد استكمل الإيمان وذاق حلاوته يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان»[3]. وليحذر كل الحذر من أحب شخصاً لصفة مخالفة للشريعة فيه. فمن أحب كافراً لكفره أو فاسقاً لفسقه فإنه مثله. وربما كان المرء شريك قاتل أو فاجر أو محارب لله ولم يفعل فعله سوى أنه رضي بما فعل وأحبه لفعلته تلك. إن الرضا بالمعصية معصية، وإن حب الكفر كفر.

 

إن الحب في الله والبغض في الله من القضايا الدقيقة على المؤمن أن يضع موازين الشرع نصب عينيه في ذلك، فإن مال القلب إلى أحد فلينظر إلى هذا الحبيب ومدى التزامه بأحكام الشرع فإن كان مطبقاً لأحكامها وملتزماً بآدابها كان حبنا له في الله.

ولننظر إلى من نبغضه ومدى بُعده عن أحكام الشرع، فإن كان مجافياً للشرع وأحكامه متمرداً على طاعة الله ورسوله كان بغضنا له في محله. أما إن كان العكس فلنعد النظر في ميولنا وعواطفنا.

ولندرك أن الحب وسيلة للحاق بالمحب في الآخرة، فمن فاته بعض الكمال فلا يفوتنه محبة أهل الكمال. فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكنّي أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. قال أنس: فما فرحنا بشيء فَرَحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. قال: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم)[4].

 

الصفة الثالثة: أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يعود في النار:

من الأساليب النبوية البليغة تشبيه المعقول بالمحسوس، فإن من أشد الآلام الحسية العذاب بالنار، فينبغي أن يكون ألم المؤمن النفسي في الوقوع في الكفر كألمه الحسي من الوقوع في النار.

فإن مصير الكافر نار جهنم وهذا من اليقينيات التي يعتقدها المؤمن، فإن المؤمن قد أنقذ من النار بسبب إيمانه، فرجوعه إلى الكفر دخول في النار ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 6-8].

 

مما يستفاد من الحديث:

 

1- التلذذ بالمعنويات والمعقولات مثل التلذذ بالمحسوسات، فكما للمطعومات والمشروبات لذة، فإن للحق لذة، وللعقائد الصحيحة لذة وللجمال والكمال والخلق الحسن والعمل الصالح لذة.

2- لا يكمل إيمان المؤمن حتى يقدم حب الله ورسوله على حب المال والجاه والقرابات وعلى حب نفسه التي بين جنبيه.

3- من آثار المحبة الطاعة والاتباع، فمن ادعى حب الله ورسوله وهو عاص لأوامر الله كان كاذباً في دعواه.

4- ينبغي أن يكون حب الأشخاص أو بغضهم للصفات والأفعال التي يقومون بها فإن تحولوا عن صفاتهم اختلف الميل تجاههم، فالكافر والفاسق والمنحرف يُكرهون للصفات التي يتصفون بها، فإن تحولوا إلى الإيمان والطاعة والاستقامة يجب محبتهم عندئذٍ. وهذا هو معنى الحب في الله والبغض في الله.

5- من أعطى حبه لشخص أو جهة لقي مصيره وحشر معه يوم القيامة.

6- من شأن المؤمن تعلقه بعقيدته وكرهه الكفر كما يكره أن يلقى في النار.

د.مصطفى مسلم

 

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد