الصغيرات الكاشفات


في مسيرتي معه وأنا أعمل في التجارة بتوجيهه، كان أبي – رحمه الله تعالى – حريصًا على نقل خبراته وتجاربه لنا، وكان يستغل القصص ليفعل ذلك، ورغم أن والدي لم يكن من طبقة (المتعلمين) حاملي الشهادات الأكاديمية، إذ ترك المدرسة وهو في المرحلة الإعدادية، إلا أنه كان متميِّزًا في خبرته وأسلوبه. إحدى القصص التي كان يذكرها لي علمتني درسًا استفدت منه في كل مراحل حياتي بعده، كانت تلك قصة (التاجر والبيضة المسلوقة).

حدثني أبي أن تاجرًا من القدماء كان حكيمًا، فكان إذا أراد عقد (شراكة) مع تاجر آخر دعاه ليتناولا طعام (الفطور) معًا، وكان يتعمد أن يجلسا وحدهما على المائدة، وأن يكون من ضمن الطعام الموضوع على المائدة (بيضتان مسلوقتان)، يتفاوت الحجم بينهما بشكل واضح، ثم يراقب شريكه المستقبلي، فإذ وجده قد سارع لأخذ البيضة المسلوقة الكبيرة، وترك الصغيرة له، قرر صرف النظر عن عقد الشراكة معه، لأنَّ الذي يطمع في الفرق بين حجم بيضتين مسلوقتين لا يؤتمن ليكون شريكًا. هذه القصة التي علمني إياها أبي – رحمه الله – سمّيتها (الصغيرات الكاشفات)، وأعني بالصغيرات هنا (الأفعال الصغيرة)، وهي أفعال تكشف عن طبائع النفوس، وذلك بوجود ضوابط لها بالطبع.

كان الناس يقولون: الألسنة مغارف القلوب، ويعنون بذلك أن ما تكنّه القلوب لا بدّ من أن يظهر في فلتات اللسان، وكذلك الأمر هنا، فإن الفعل الصغير الذي يتكرر من الشخص يدلُّ على ترسخ أصل هذا الفعل في نفسيته. فالذي يدفع الشخص الذي في حكاية (البيضة المسلوقة) للإسراع وأخذ البيضة الكبيرة وترك الصغيرة هو رغبته بالاستئثار بها، وهو سلوك نابع من (الطمع والأنانية)، وخُلُق الطمع هذا إذا كان في المرء يجعله غير صالح لعمل (مشترك)، فالذي يتصف بالطمع وينطبع سلوكه به سيمارس طمعه مع شريكه في التجارة كما مارسه مع رفيقه الآكل معه على المائدة.

وكما أسلفتُ فقد استفدت من هذا الدرس في حياتي كلها، ففي رحلاتي في سجون الاحتلال عندما كنا نعيش في غرف مغلقة، وأوضاعنا المعيشية سيئة، كانت تلك (الصغيرات) من الأعمال تكشف طبائع الناس الذين تعيش معهم.

كانت إدارة السجن تُحضِر لكل أسيرٍ حبّة فاكهة واحدة يوميًّا، وكان التفاح هو الفاكهة الأكثر تكرارًا حينها، وكما هو معلوم فإن التفاحات العشر التي تدخل الغرفة لتوزيعها على الأسرى العشرة الذين فيها لا يمكن أن تكون كلها بحجم واحد، وكان أمير الغرفة يوزع التفاح على أهل الغرفة، وكان دأب بعضهم أن يمدَّ يده ليأخذ أكبر حبة فاكهة من الموجود، وبالطبع لا أتكلم عن حالةٍ فَعَلَ فيها الشخص ذلك مرة واحدة، إذ قد يأخذ التفاحة الكبيرة مرة وهو غير منتبه، أو لأنها التي أمامه، ولكني أتكلم عن الحال التي كان فيها ذلك الأمر منهجًا عند الشخص، فكان هذا السلوك يشير إلى وجود خُلُق الطمع والأنانية لدى هذا الأخ، وكان مرور الأيام كفيلًا بتأكيد ما أشارت إليه تلك الأفعال الصغيرة من وجود ذلك الخُلُق عنده.

وفي المقابل كان هناك إخوة، وهم كثيرون بفضل الله، إذا كان الأول في التوزيع بادر فأخذ الحبة الأصغر من الفواكه المقدّمة، إيثارًا لبقية إخوانه بالأكبر منها، وقد عشتُ في غرف كانت الحبة الأكبر من الفاكهة فيها من نصيب الأخير في التوزيع، إذ كل واحد يؤثر بها إخوانه، وهذا الفعل، رغم بساطته، كان يدل على ترسخ خُلُق الإيثار لدى الذي يفعله.

وعلى ما سبق من مثالٍ لك أن تقيس، فالأخلاق المذمومة كالكذب والبخل والفضول الزائد والعصبية، تنكشف لك من تصرفات صغيرة تشير إليها وتتكرر من صاحبها، وكذلك الأخلاق المحمودة تظهر في تصرفات صغيرة، وبتراكمها يتم تشكيل صورة عن صاحبها.

وهنا لا بدّ من التأكيد أن صدور فعل صغير واحد يدل على خُلُق مذموم أو محمود لا يعتبر مؤشرًا نهائيًّا على رسوخ هذا الخُلُقِ في الفاعل، إذ قد يكذب الصادق مرة، وقد يبخل الكريم أحيانًا قليلة، وقد يجبن الشجاع في حالة ما، وكذلك فإن الكذوب قد يصدق مرة، وقد تصيبُ البخيلَ نوبةُ كرم مفاجئة مرة، وقد يُقدِم الجبانُ في ظرف ما، ولكن كل واحد من هؤلاء يعود إلى أصل الخُلُق الذي كان عليه.

فالذي يدل على وجود هذا الخلق هو تكرار الأفعال المشيرة إليه، فيدلُّ ذلك التكرار على رسوخ ذلك الخلق، فإذ لاحظتَ من رفيق لك سلوكًا يدلُّ على خُلُقٍ ما، فلا تتعجل بالحكم عليه حتى ترى مدى تكرار ذلك منه. هذا المعني الذي علمنيه أبي – رحمه الله – وجدتُ في تراثنا ما يؤكده، فقد جاء عن عروة بن الزبير أنه قال: (إذا رأيتَ الرجلَ يعملُ الحسنةَ فاعلمْ أنَّ لها عنده أخواتٍ، فإذا رأيتَه يعملُ السيئةَ فاعلمْ أنَّ لها عنده أخواتٍ، فإِنَّ الحسنةَ تَدُلُّ على أخواتِها، وإِنَّ السيئةَ تَدُلُّ على أخواتِها).

وقد نقل التابعي طاووس، تلميذ ابن عباس، عن رجل عاقلٍ لبيبٍ في الزمان السابق أنه قال في وصية له: (وإذا اطَّلعتُمْ مِن رجلٍ على عَمَلِ فَجْرَةٍ فاحذروهُ، فإنَّ لها أخواتٍ). هي دروسٌ من دروس الحياة، اكتسبها السابقون بتجاربهم، وتركوها لنا ليختصروا لنا الطريق، ويزودونا بالقوانين العاصمات من الوقوع في الخطأ.

الأستاذ عيسى الجعبري

 

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد