إشارةٌ في النصيحة الصحيحة


 يقول الله تعالى

“لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ”

«الدين النصيحة». ثلاثًا. قلنا: لمن؟، قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم».حديث صحيح.

قال الإمام الخطابي: النصيحة كلمة يعبَّر بها عن إرادة الخير للمنصوح له. وأصل النصح في اللغة: الخُلُوص. يقال: نصحت العسلَ: إذا خلَّصته من الشمع. وقال بعضهم: جماع تفسير النصيحة: هو عناية القلب للمنصوح له مَنْ كان. وبناء على ذلك، فإن النصيحة من أجلّ مُهمات الإسلام، وهي مندرجة تحت أصل كبير من أصوله، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إلا أن هناك كثيرًا من الخلل يعتري ممارسة هذا الأدب العظيم، ويختلط هذا الخلل في الممارسة بهذا الأصل الجليل من أصول الإسلام في ذهن كثير من الناس، حتى عاد ذلك بالسلب والانتقاص على مفهوم النصيحة نفسه.

 ولذلك القصور في ممارسة النصيحة أوجه متعددة، ليس الغرض استقصاءها، وإلا لطال الكلام كثيرًا. ولكن أصوِّب النظر في هذه الإشارة إلى ملمحين سريعين من ذلك الخلل، يتعلق الملمح الأول بخلل في فهم معنى النصيحة وما يلزم منها ومعنى الانتصاح وقبول النصح. ثم الخلط الذائع بين النصيحة وضروب أخرى من الهوى، كالتسلط والانتقام والتشفي والتعيير والتأنيب.

 أعظم آداب النصيحة: أن تنصح لمن تنصح، مريدًا له الخير في قلبك، محبًّا لنفعه، مقدِّمًا مصلحته، لا استكبارًا عليه، ولا ترؤُّسًا وتسلطًا. ناصحًا مشفقًا لا فارضًا عليه أمرك ونهيك مُلزِمًا له الاستجابة لرأيك، ثم بعد النصح تتركه وتحمل عصاك وترحل. لا تَكَلَّفْ بالنصح، ولا تُعِدْه من غير مسوِّغ يقتضي تكراره، ولا تُلِحَّ فيه، ولا تعيِّر به. ثم إن أخذ المنصوح بنصحك = فلكما الحسنى. وإن لم يأخذ = لم يضرك شيئًا، إن أنت أردت وجه الله والدار الآخرة، لا علوًّا في الأرض ولا استكبارًا.

وينبغي أن يُعلَم أن الانتصاح لا يعني ولا يقتضي أن يلتزم المنصوحُ مضمونَ النصح بأن يفعله، أو يفعله بتمامه، ولكن الانتصاح هو قبول النصح – إن كان نصيحة صحيحة قائمة على فهم وعلم وملتزمة الأدب الشرعي والعرفي – والاستجابة له استجابة حسنة، بإعطائه الاهتمام، وشكر الناصح، والتفكر في نصحه. ثم يبقى امتثال النصح من عدمه راجعًا لنظر المنصوح وعقله. فمن الخطأ الشائع أن يقال لمن لم يمتثل النصح إنه لا ينتصح! وكأن النصيحة أمر واجب الامتثال، وليس المطلوب قبول النصيحة كمبدأ وإشارة وتذكير.

 فمن نصح أحدا، فلم يأخذ بنصحه، من غير تعدّ عليه ولا بغي = ففار ومار، وهاج وماج = فليعلم أنه لم ينصح لوجه الله، وإنما لكبر في نفسه ما هو ببالغه. فإن الذي ينبغي التزام أمره ونهيه هو الله تعالى ورسوله، لا أحد من المخلوقين، إلا آمرًا بنص الوحي، لا برأي يراه، وإن اعتقده معبرًا عن الوحي، فإن البلاغ عن الله تعالى بحيث يكون نفسُ البلاغ وحيًا = هو للرسول المعصوم لا غير.

وقد اعتبرتُ حالَ كثير من الناس، ممن ينعي على غيره الغرور، وينادي في الناس إن فلانًا مستكبر لا يقبل النصح = فوجدت حالهم أنهم لأشد كبرا في أنفسهم وعلوًّا، وأنهم ما يريدون من الناس إلا أن يعظموهم هم، ويكبّروهم هم. ومن أعظم كبرهم أنهم يريدون من الناس أن يدينوا لهم، ويطيعوهم، ويوافقوا رأيهم ومرادهم في كل أمر، فمن خالفهم ولم ينصع لرأيهم = قَلَوْه، وكرهوه، وحذّروا منه. ولعمر الله: إن تخليص النصحِ من التعيير، ووجهِ الله من وجه الناس، ومظهر الاتضاع من حقيقة الاستكبار = لشيء ليس بيسير، إلا على من يسره الله عليه.

ومن حُسن الفقه ألا تنصح أحدًا بأمرٍ أنت تعلم أنه يعلمه، مع حسن سيرته وهديه العام، ثم تتذرع بأن الذكرى تنفع المؤمنين! فإنَّ للناس أحوالًا، وحاجاتٍ، وضرورات قد تخفى عليك، والعارف فقيه نفسه. ثم إن ذكرَّتَه بما تعلم أنه يعلمه، من غير معرفة منك بانتكاسه في جملة حاله = فلا يكن من باب تعليمه ما يجهله، ولا استيحاش فعله منه وإنكاره عليه، ولكن ليكن اطمئنانًا عليه وتوددا إليه. وليس ذلك قطعًا لباب النصح، ولا تقديسا لأهل العلم والفضل، بل هو من أدب النصيحة العزيز المهجور في أزمنة التماوت والتخاشع.

وكثيرًا ما يختلط مقام النصيحة، بمقام الانتقام والتشفّي، والتأنيب، والتعيير. وتخدع النفس نفسها، فتسمي تلك الأمراض القلبية نصيحةً، بجامع أن كليهما تصويب لفعل الغير. (وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانَّةً أنها تفعله طاعة لله) كما يقول ابن تيمية.

 قال شيخ الإسلام في كلام له عن الرد على المبتدعة: (فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يحل له أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصداً بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله)، وقال: (الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم: إن لم يقصد فيه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم = لم يكن عمله صالحا. وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها. وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرا، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله، للرحمة والإحسان، لا للتشفي والانتقام .

قلت: إذا تحققت من ذلك: عرفت أن كثيرا من –  أو بالأحرى أكثر – ما ترى من الردود والمساجلات على الساحة، سواء السياسية، أم الطائفية = داخل في المراء، والإساءة، إن لم يكن بالكلية، فمن أوجه متعددة. ولو سُمِّي ذلك نصيحة، أو إحقاقًا للحق. بل ولو لم يخل من ذلك، إلا أنه مشوب ليس محضًا يراد به وجه الله وحده. قال أبو حامد الغزالي :(المراء: طعن في كلام الغير بإظهار خلل فيه من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير، وإظهار مزية الكياسة).

 يقول ابن القيم: (والفرق بين النصيحة والتأنيب: أن النصيحة إحسان إلى من تنصحه بصورة الرحمة له والشفقة عليه والغيرة له وعليه، فهو إحسان محض يصدر عن رحمة ورقة، ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه والإحسان إلى خلقه، فيتلطف في بذلها غاية التلطف، ويحتمل أذى المنصوح ولأمته، ويعامله معاملة الطبيب العالم المشفق المريض المشبع مرضًا، وهو يحتمل سوء خلقه وشراسته ونفرته ويتلطف في وصول الدواء إليه بكل ممكن، فهذا شأن الناصح.

 وأما المؤنّب: فهو رجل قصده التعيير والإهانة، وذم من أنبه وشتمه في صورة النصح، فهو يقول: يا فاعل كذا وكذا، يا مستحقا الذم والإهانة، في صورة ناصح مشفق. وعلامة هذا: أنه لو رأى من يحبه ويحسن إليه على مِثْلِ عمل هذا أو شر منه = لم يعرض له ولم يقل له شيئا ويطلب له وجوه المعاذير. فإن غُلِب قال: وأنّى ضُمِنَتْ له العصمةُ، والإنسان عرضة للخطأ، ومحاسنه أكثر من مساويه والله غفور رحيم ونحو ذلك).

بقلم الأستاذ عمرو بسيوني

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد