رمضان


لما قعدت أكتب هذا الحديث تقابلت في نفسي صورتان لرمضان: رمضان المزعج الثقيل الذي قدم يحمل الجوع والعطش؛ ترى الطعام أمامك، يدك تصل إليه ونفسك تشتهيه ولكنك لا تستطيع أن تأكله، ويلهب الظمأ جوفك والماء بين يديك ولكنك لا تقدر أن تشربه، وتكون في أمتع نومة فيأتي رمضان فيوقظك لتأكل من جوف الليل وأنت تؤثر لحظة منام على كل ما في الدنيا من طعام، وإن كنت صاحب دخان منعك من دخينتك (سيكارتك) أو نارجيلتك؛ فهو شهر مشقة وتعب وجوع وعطش.

ورمضان الحلو الجميل الذي يقوم فيه الناس في هدءات الأسحار وسكنات الليل، حين يرقّ الأفق وتزهر النجوم ويصفو الكون، ويتجلى الله على الوجود يعرض كنوز فضله على الناس ويفتح لهم باب رحمته، يقول جلّ وعلا: «ألا مِن مستغفر فأغفرَ له؟ ألا من سائل فأعطيَه؟»، فيسأل الطالب ويستغفر المذنب، فيُعطى السائل ويُغفر للتائب، وتتصل القلوب بالله فتحسّ بلذة لا تعدل لذاذاتُ الدنيا كلُّها ذرةً واحدة منها. ثم يسمعون صوت
المؤذن يمشي في جنبات الفضاء مشي الشفاء في الأجسام والطرب في القلوب، ينادي: «الصلاة خير من النوم»، فيقومون إلى الصلاة يقفون بين يدَي مصرِّف الأكوان يناجون الرحيم الرحمن، فيسري الإيمان في كل جنان، ويجري التسبيح على كل لسان، وتنزل الرحمة في كل مكان.

رمضان الذي ينيب فيه الناس إلى الله ويؤمّون بيوته، فتمتلئ المساجد بالمسلمين، متعبدين أو متعلمين لا متحدثين ولا نائمين، ففي كل بلد من بلاد الإسلام مساجدُ حُفَّلٌ بالعبّاد والعلماء، ليس يخلو مجلس فيها من مصلٍّ أو ذاكر، ولا أسطوانة من تالٍ أو قارئ، ولا عقد من مدرّس أو واعظ، قد ألقوا عن قلوبهم أحمال الإثم والمعصية، والغل والحسد، والشهوات والمطامع، ودخلوا المساجد بقلوب صفَت للعبادة وسمَت إلى الخير، قطعوا أسبابهم من عالم الأرض ليصلوها بعالم السماء، تفرقوا في البلدان واجتمعوا في الإيمان، وَحّدتهم هذه القِبلة التي يتوجهون كلهم إليها، لا عبادةً لها، فما يعبد المؤمن إلاّ الله، وما الحجر الأسود إلاّ حجر لا يضرّ ولا ينفع، وإنما هو رمز إلى أن المسلمين -مهما تناءت بهم الديار وتباعدت الأقطار- أمة واحدة، دائرة محيطها الأرض كلها ومركزها الكعبة والبيت الحرام.
رمضان الذي نجتلي فيه أجمل صفحات الوجود، وما كنا لنجتليها قبل رمضان. لأن الحياة سَفَرٌ في الزمان، يحملنا قطار الأعمار، فإذا قطع بنا أجمل مراحل الطريق: حيث يولد النور، وتصفو الدنيا، ويسكن الكون؛ مرحلة السحر، قطعها بنا ونحن نيام لا نفتح عليها عيوننا ولا نبصر فتونها.
رمضان الذي يجمع للصائم صحة الجسم، وصحة الروح، وعظمة النفس، ورضا الله.

إن الصيام من سنن الرياضيين، وسلوا كتب الرياضة وسلوا شيخها مكفادن. ولست طبيباً ولكني جربت بنفسي، ورُبّ مجرِّب أعرف بنفسه من طبيب، فأنا أحد من أضنتهم الرثية (الروماتزم) وحصوات الكلى، ولقد راجعت في علاجها ستة وثلاثين طبيباً، إي والله، وأحسبني جرّبت لها كل علاج، فلم أجد لها مثل الصيام. والصيام يصفّي الجسم ويطرح سمومه، وينفي عنه الفضلات ويبعد عنه الأمراض.

رمضان الذي تتحقق فيه معاني الإنسانية وتكون المساواة بين الناس، فلا يجوع واحد ويتخم الآخر، بل يشترك الناس كلهم في الجوع وفي الشبع، غنيّهم وفقيرهم؛ فيحسّ الغني بألم الجوع ليذكره -من بعد- إذا جاءه من يقول له: “أنا جوعان”، ويعرف الفقير قيمة نعمة الله عليه حين يعلم أن الغني يشتهي -على غناه- رغيفاً من الخبز أو كأساً من الماء، ويعلم الجميع حين يجلسون إلى مائدة الإفطار أن الجوع يسوّي بين المطاعم كلها: القوزي والنمّورة، وصحن الفول المدمّس وقطعة الجرادق.

وليس الذي يطيّب الطعامَ غلاءُ ثمنه ولا جودة صنعه ولا حسن مائدته، ولكن الجوع الذي يشهّيه والصحة التي تهضمه، وأرخص طعام مع الصحة والجوع ألذّ من موائد الملوك لمن كان مريضاً أو شبعان. ويغدو الناس كأنهم إخوة في أسرة واحدة أو رفاق في مدرسة داخلية، يفطرون جميعاً في لحظة واحدة ويمسكون جميعاً في لحظة واحدة، فتراهم المساء مسرعين إلى بيوتهم أوقائمين على مشارف دورهم أو على أبواب منازلهم، فإذا سمعوا ضربة المدفع، أو أبصروا ضوء المنارة، أو رنّ في أسماعهم صوت المؤذن، عمّت الفرحة الكبار والصغار، فانطلقت وجوه الكبار، وصاح الصغار بنغمة موزونة: “أذَّنْ أذَّنْ أذَّنْ” وطاروا إلى دورهم كعصافير الروض، يرضى كلٌّ بما قُسم له ويحمد الله عليه، قد راضهم الجوع على أن يتقبلوا كل طعام، فكل طعام هو في أذواقهم -تلك الساعة- أطيب طعام.

فإذا فرغوا من طعامهم أمّوا المساجد فقاموا بين يدي ربهم وخالقهم صفاً واحداً، متراصّة أقدامُهم ملتحِمةً أكتافُهم، وجباهُهم جميعاً على الأرض، الغني والفقير، والكبير والصغير، والصعلوك والأمير، يذلّون لله، يضعون له وجوههم عند مواطئ الأقدام، فيعطيهم الله بهذه الذلة له عزّة على الناس كلهم، فتنخفض لهم رؤوس الملوك والجبارين حتى تقع على أقدامهم، ومن ذلّ لله أعزه الله، ومن كان لله عبداً جعله الله في الدنيا سيداً، ومن كان مع الله باتباع شرعه والوقوف عند أمره ونهيه وإتيان فرائضه واجتناب محرّماته كان الله معه بالنصر والتوفيق والغفران، وبذلك ساد أجدادنا الناس، وفتحوا الأرض من مشرقها إلى مغربها، وحازوا المجد من أطرافه، وأقاموا دولة ما عرف التاريخ أنبل منها ولا أفضل، ولا أكرم ولا أعدل.

هذه صورة رمضان الحلوة، أفلا تُستحلى معها مرارة الصورة الأخرى؟ إنه دواء فمَن مِن العقلاء لا يحتمل ألم الدواء لما يرجو بعده من لذة الشفاء؟ ها هو ذا رمضان، فإذا أردتم أن تصوموا حقاً فصوموا فيه عن الأحقاد والمآثم والشرور، كفّوا لسانكم فيه عن اللغو وغضّوا فيه أبصاركم عن الحرام، واعلموا أن من الصائمين من ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش؛ ذلك الذي يترك الطعام ويأكل بالغيبة لحوم إخوانه، ويكف عن الشراب ولكنه لا يكف عن الكذب والغش والعدوان على الناس، ولقد سأل الرسولُ صلى الله عليه وسلم أصحابَه: «من المفلس؟»، قالوا: «المفلس فينا من لا مال له ولا درهم»، قال: «المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وحسنات، ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فلا يبقى له شيء». وأفظع الذنوب الكذب، الكذب بالقول والكذب بالفعل، بأن تتزيّا بزي الصالحين وتتخذ سمت المتقين وأنت مُراءٍ مخادعٌ تريد أن تأكل الدنيا بالدين، ولقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يسرق المؤمن؟ هل يفعل كذا وكذا من الذنوب؟ فأجاب بأنه ربما وقع ذلك منه فتاب، فسألوه: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا، إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون ولقد بين صلى الله عليه وسلم بأن من غش فليس منا، وهذا قانون من مادة واحدة معناه بلسان اليوم: «يُطرَد من الجنسية الإسلامية من يغشّ».

ففتشوا في الصائمين: أليس فيهم من يكذب؟ أليس فيهم من يغشّ؟ أليس فيهم من يُخلف الوعد، وإخلاف الوعد ثلث علامات النفاق؟ فكيف يرجو هؤلاء أن يكون لهم ثواب الصائمين وهم قد صاموا عن الطعام الحلال ولم يصوموا عن الحرام؟

إن الدين المعاملة، ومقياس الصلاح الصفراء والبيضاء، الذهب والفضة، المال؛ هذا هو المقياس. ولقد زكّى رجل رجلاً عند عمر فقال له: هل عاملته؟ هل سافرت معه؟ أم لعله غرّك منه إحناء رأسه في الصلاة وتحريك لسانه بالتسبيح؟
الدين المعاملة، والمقياس المال.

وبعد يا أيها الصائمون، فإن رمضان شهر الحب والوئام، فكونوا فيه أوسع صدراً وأندى لساناً وأبعدَ عن المخاصمة والشرّ، وإذا رأيتم من نسائكم زلة في رمضان فاحتملوها، وإن وجدتم مساءة من إخوانكم فاصبروا عليها، وإن بادأكم أحد بالخصام فلا تقابلوه بمثله، بل ليقل أحدكم: «إني صائم».
وإذا جعتم هذا الجوع الاختياري فاذكروا من يتجرع غصص الجوع الإجباري، واشكروا على نعمة ربّكم. وليس الشكر أن ترددوا ألف مرة باللسان وحده: «الحمد لله، الحمد لله»، ولكنّ شكرَ الغني البذلُ للفقراء، وشكرَ القوي إسعادُ الضعفاء.

وأعطوا من أنفسكم كما تعطون من أموالكم، فرُبّ بسمة مع العطاء تنعش السائل أكثر من العطاء، وكلمة خير لجار تحيي الجار، وبش في وجه ذي الحاجة والاعتذار عنها خير من قضائها مع الترفع عليه عند السؤال والمنّ عليه بعد النوال.
فجربوا هذه العطية في رمضان.

وخذوا منه الصحة لأجسامكم، والسمو لأرواحكم، والعظمة لنفوسكم، والقوة والنبل، والبذل والفضل، وخذوا منه ذخراً للعام كله، يكن لكم ذخراً.
رمضان الذي تَشيع فيه خِلالُ الخير ويعم الحب والوئام، فإذا أردتم أن تصوموا حقاً فصوموا عن الأحقاد، واذكروا ما في أعدائكم من خِلال الخير فأحبوهم لأجلها، واغفروا لهم وادفعوا بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينكم وبينه عداوة كأنه ولي حميم.

من كتاب: مع الناس، لعلي الطنطاوي – رحمه الله –

منتدى سلطان العلماء

شاركنا بتعليق






  • رحم الله الشيخ علي الطنطاوي ونفعنا بعلومه