شغلي الدائم المطالعة


يقرع التلاميذُ اليوم أبوابَ المدارس المتوسطة وما معهم من العلم إلاّ ما كان في كتب المدرسة الابتدائية. وكثير منهم لم يقرأها كلها، أو قرأها ولكن لم يفهمها كلها، أو فهمها ولكن لم يحفظها كلها، وما ذاك لأنهم أقلّ منا ذكاءً أو أضعف إدراكاً، بل لأننا كنا أشد منهم رغبة في العلم وتقديراً له وحرصاً عليه، كنا نفرح إن ازددنا علم مسألة لم نكُن نعلمها، وهم يفرحون إن حُطّت عنهم مسألة كانوا سيكلَّفون علمها.
ثم إننا لم نكُن نجد ملهاة تصرفنا حقاً عن التحصيل، وهم لا يجدون -لكثرة الملهيات ووفرة التسليات- وقتاً للتحصيل.

أنا لما وردت «مكتب عنبر» كنت أحمل مع الشهادة الابتدائية في يدي ذخيرة من المعلومات في رأسي لا يقوى على حمل أكثر منها فتى في سني، وما ألزمَتني المدرسة بها ولا حصّلتها فيها، بل جمعتها أو جمعت أكثرها وحدي من خارجها.

لقد قرأت قبل مكتب عنبر وفي سنواتي الأولى فيه كتباً لا أكون مبالغاً ولا مدّعياً مغروراً إن قلت إن في الأساتذة اليوم من لم يقرأها؛ ذلك أني كنت أمضي وقتي كله (إلاّ ساعات المدرسة) في الدار.
لم أتخذ لي يوماً رفيقاً من لِداتي ولا صديقاً من أقراني، ولم أكُن (بحكم تربيتي ووضع أسرتي) أعرف الطريق إلى شيء من اللهو الذي كان يلهو بمثله أمثالي، فلم يكُن أمامي عمل أنفق فيه فضل وقتي وأشغل به نفسي إلاّ المطالعة.

وكانت في دارنا مكتبة كبيرة، وهي دانية مني كتبها كلها تحت يدي، ولم أكُن -لشغل أبي عني- أجد من يرشدني ويدلّني، لذلك كنت (كما قلت من قبل) أسحب الكتاب لا أدري ما هو، فأفتحه فأنظر ما فيه، فإن لم أفهمه (أو فهمته ولكن ما أسغته) أعدتُه وقد علق في ذهني اسمه، وإن فهمته وأسغته قرأته.

وكان أول ما قرأت كتاب «حياة الحيوان» للدَّميري، وهو كتاب عجيب فيه فقه، بل هو أقرب مرجع لمعرفة الحكم الشرعي في الحيوان الذي يؤكَل لحمه والذي لا يؤكل. وفيه تاريخ، وفيه فوائد، وفيه خرافات … ثم قرأت «المستطرَف» و «الكشكول»، وهما من أدب عصور الانحطاط والتأخر. ثم وقعَت يدي على «الأغاني» لأبي الفرج فعلقت به وقرأت أكثر أجزائه، لا أزعم أني فهمت كل ما فيه ولا أني أحطت به، بل أقول إن الذي فهمته منه نُقش على صفحة ذهني.

وكنت بحمد الله أحفظ كل ما قرأت وأكثر ما سمعت لأن ذاكرتي بصرية لا سمعية، فأنا يوم الامتحان أذكر مكان المسألة من صفحة الكتاب.
وكنت أُعرض عن الأسانيد وأتتبع الأخبار، فحفظت من أسماء الشعراء والمغنّين والعلماء والرواة الكثير، وحفظت كثيراً من الشعر أخذت بعضاً منه بلا ضبط ولا تحقيق، وقد سمعت أستاذنا الجندي مرة يروي بيتاً فيه لحن، فأبديت عجبي فضحك وقال: سببه أني حفظته كذلك منذ الصغر!

ونظرت -على مدى السنين- في أكثر كتب اللغة والأدب التي كانت مطبوعة في تلك الأيام؛ لأن جدي كان مولَعاً بالكتب فلا يسمع بكتاب ظهر إلاّ اشتراه وأودعه مكتبته، وتبعه أبي في (بعض) ذلك.
وكانت أكثر الكتب عندنا «ميريّة» من طبعة بولاق، والكتاب المطبوع في المطبعة الأميرية في بولاق يُباع بأضعاف ثمن المطبوع في غيرها (أي البرّاني)، ذلك لأن المصحّحين فيها كانوا من أعلام العلماء، وحسبكم أن يكون منهم الشيخ نصر الهوريني ت 1291ه صاحب «المطالع النصرية» أوثق وأوسع كتاب أعرفه في قواعد الكتابة، وكل من كتب فيها بعده أخذ منه ونقل عنه. وأجمع كتاب بعد المطالع هو كتاب «أدب المُمْلي»، والشيخ الهوريني هو شارح مقدّمة القاموس المحيط. وكان يحسن الفرنسية، تعلمها لمّا أُرسل إلى فرنسا إماماً لإحدى البعثات. وتلك سنة حسنة تركناها، هي أن يصحب كلَّ جماعة من المبتعَثين إمامٌ يشرف عليهم ويفتيهم.

بقلم: علي الطنطاوي
من كتاب الذكريات

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد