اعرف نفسك


أتحسب أنك واحد وأنك معروف، وأنت جماعة في واحد، وأنت عالم مجهول؟ كشفتَ مجاهل البلاد وعرفت أطباق الجو، ولا تزال أنت مَخفيّاً لم يظهر على أسرارك أحد، فهل حاولت مرة أن تدخل إلى نفسك فتكشف مجاهلها؟

نفسك عالم عجيب، يتبدل كلَّ لحظة ويتغير ولا يستقر على حال: تحب المرءَ فتراه مَلَكاً، ثم تكرهه فتبصره شيطاناً. وما ملكاً كان قطّ ولا شيطاناً، وما تبدل، ولكن تبدلت حالة نفسك. وتكون في مسرَّة فترى الدنيا ضاحكة، حتى إنك لو كنت? مصوِّراً? لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان، ثم تراها وأنت في كدر باكية قد غرقت في سواد الحداد، وما ضحكت الدنيا قط ولا بكت، ولكن كنت أنت الضاحك الباكي.

فما هذا التحول فيك؟ وأي أحكامك على الدنيا أصدق وأي نظرَيك أصح؟ وإذا أصابك إمساك فنالك منه صداع ساءت عندك الحياة، وامّحى جمال الرياض وطُمس بهاء الشمس واسْوَدّ بياض القمر، وملأتَ الدنيا فلسفة شؤم إن كنت فيلسوفاً وحشوت الأسماع شعر بؤس إن كنت شاعراً، فإذا زال ما بك بقَدَح من زيت الخَرْوَع ذهب التشاؤم في الفلسفة والبؤس في الشعر.
فما فلسفتك -يا أيها الإنسان- وما شِعرك إن كان مصدرهما فَقْدَ قَدَح من زيت الخَرْوَع؟

وتكون وانياً واهي الجسم لا تستطيع حراكاً، فإذا حاق بك خطر أو هبط عليك فرح وثبت كأنْ قد نشطت من عقال وعدوت عدو الغزال، فأين كانت هذه القوة كامنة فيك؟ هل خطر على بالك أن تبحث عن هذه القوة فتحسن استغلالها؟ هل تساءلت مرة عندما تغضب أو تفرح فتفعل الأفاعيل: كيف استطعت أن تفعلها؟.

إنَّ النَّفْس -يا أخي- كالنهر الجاري؛ لا تثبت قطرة في مكانها ولا تبقى لحظة على حالها، تذهب وتجيء غيرها، تدفعها التي هي وراءها وتدفع هي التي أمامها.

في كل لحظة يموت واحد ويولد واحد، وأنت الكل؛ أنت الذي مات وأنت الذي وُلد، فابتغِ لنفسك الكمال أبداً، واصعد بها إلى الأعالي، واستولدها دائماً مولوداً أصلح وأحسن، ولا تقل لشيء «لا أستطيعه»، فإنك لا تزال كالغصن الطري لأن النفس لا تيبس أبداً ولا تجمد على حال، ولو تباعدت النقلة وتباينت الأحوال.

إنك تتعود السهر حتى ما تتصور إمكان تعجيل النوم، فما هي إلا أن تبكر المنام ليالي حتى تتعوّده فتعجب كيف كنت تستطيع السهر؛ وتدمن الخمر حتى ما تظن أنك تصبر عنها، فما هي إلا أن تدعها حتى تألف تركها وتعجب كيف كنت تشربها.

وتحب المرأة حتى ما ترى لك حياة إلا بها، فما هي إلا أن تسلوها حتى تعجب كيف كنت تحبها.
فلا تقل لحالة أنت فيها: “لا أستطيع تركها”، فإنك في سفر دائم، وكل حالة لك محطة على الطريق، لا تنزل فيها حتى ترحل عنها.

فيا أخي: اعرف نفسك، واخلُ بها، وغُصْ على أسرارها، وتساءل أبداً: ما النفس؟ وما العقل؟ وما الحياة؟ وما العمر؟ وإلى أين المسير؟
ولا تنسَ أنّ مَن عرف نفسه عرف ربه، وعرف الحياة، وعرف اللذة الحق التي لا تعدلها لذة. وإن أكبر عقاب عاقب به الله مَن نسوا الله أنه أنساهم أنفسهم!.

من كتاب: صور وخواطر، للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد