بين الجباية والهداية


لقد سبق في التاريخ أمثلة لكل من حكومات الجباية والهداية؛ أما حكومات الجباية فلا تحتاج إلى تمثيل ولا إلى شرح وبيان، فإنها هي السائدة الفاشية في الماضي والحاضر، وفي الشرق والغرب، وقد جربها الإنسان وعرفها في كل عصر، أما حكومات الهداية فهي نادرة جداً، فلنضرب لها مثلاً:

بعث محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الناس إلى الإسلام فالتف حوله: {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)} [الكهف]..

وكان هؤلاء الفتيان هدف كل قسوة وظلم، واضطهاد وبلاء وعذاب، وقد قيل لهم من قبل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت]، فصمدوا لكل ما وقع لهم وثبتوا كالجبال، وقالوا: {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22].

حتى أذن الله في الهجرة، ولم تزل الدعوة تشق طريقها وتؤتي أكلها حتى قضى الله أن يحكم رجالها في الأرض، ويقيموا القسط، ويخرجوا الناس من الظلمات الى النور، ومن عبادة العباد الى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا الى سعتها، فقد عرف أنهم إذا تولوا وسادوا {أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} سورة الحج.

وهكذا جاءت الدعوة بالحكومة كما تأتي الأمطار بالخصب والزرع، وكما تأتي الأشجار بالفاكهة والثمر، فلم تكن هذه الحكومة إلا ثمرة من ثمرات هذه الدعوة الإسلامية. ولم تكن هذه العزة والقوة إلا نتيجة ذلك العذاب الذي تحملوه من قريش وغيرهم، وذلك الهوان الذي لقوه في مكة وغيرها.

جاءت الحكومة بما يتبعها من عزة وشوكة ورجال وأموال، وكنوز وخزائن، وجباية وخراج، ورفاهة ونعيم، وكان المجال واسعاً جداً لجمع الأموال وحكم الرجال، ورفاهية الحال إذا اختاروا طريق الملوك والسلاطين في فرض الضرائب الكثيرة، والإتاوات المتنوعة والمكوس الجائرة.

التفت القوم فإذا دولتهم الوليدة على مفترق الطرق – طريق الجباية وطريق الهداية – هنالك سمعوا هاتفاً يقول: ويحكم إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبعث جابياً وإنما بعث هادياً وأنتم خلفاؤه”، فلم يترددوا في إيثار جانب الهداية على جانب الجباية، واتخاذ الدعوة والهداية شعاراً ومبدأ لحكومتهم فكان ذلك.

لقد علموا أنهم لو آثروا جانب الجباية وأطلقوا أيديهم في أموال الناس، واسترسلوا إلى النعيم، ورتعوا في اللذات، لم يحل بينهم وبين ذلك أحد، ولم يقف في سبيلهم واقف، ولكنهم علموا أنهم لو فعلوا ذلك فقد غشّوا إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، وقضوا نحبهم بدون أن يأكلوا ثمار غرسهم، لقد خانوا أولئك الذين لم يعرفوا إلا الجهاد والتعب والجوع والسغب، ولقد وصلوا إلى الحكومة على جسر من متاعبهم وإيثارهم.

أفيجوز لهم أن يستغلوها لمصلحتهم وشهواتهم، وأبنائهم، ويتمرغوا في النعيم، ويسرفوا في الأكل والشرب؟ لقد ظلموا إذن عثمان بن مظعون، وحمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر، وسعد بن معاذ، وكثيراً من رفقتهم الذين لم يروا شيئاً من الفتوح والغنائم، ولم يَشْبَعوا أياماً متوالية، وقف القوم ولم يطب لهم الأكل والشرب، وأرادوا أن يلحقوا بإخوانهم ولم يأخذوا من الدنيا إلا البلاغ.

من كتاب: إلى الإسلام من جديد لأبي الحسن الندوي

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد