طبقات الأصدقاء


خذ قلماً وورقاً وحاول أن تكتب أسماء أصدقائك جميعاً، ثم صنفهم أصنافاً، تَجِدْ أولاً أن منهم من ليسوا أصدقاء على التحقيق، ولكنهم أصحاب ورفقاء.

فمنهم رفيق تَلْقاه كل يوم أمامك، في السيارة أو الترام، يحيّيك فتحيّيه، ويسألك فتجيبه، ويرجوك إغلاق النافذة فإن فعلت شكر، أو يدوس على رجلك فإن أحسَّ اعتذر، والكلمة تجر الابتسام، والابتسام يجر الكلام، وتمرّ الأيام، فإذا أنتما تتبادلان تحيّة الصديقين وتتحدثان حديث الصفيَّيْن، وأنت لا تعرف اسمه ولا تدري «ما» هو.

ومنهم رفيق العمل؛ تكون موظفاً فترى مكتبه حيال مكتبك ووجهه تلقاء وجهك، أو تكون عاملاً فترى آلته إلى جانب آلتك، أو يكون زميلك في المتجر أو جارك في السوق، تكون معه أكثر مما تكون مع أهلك وولدك وتلقاه أكثر مما تلقى أصدقاءك وأهل وُدّك، وقد تشاركه الجِدّ والهزل والرضا والغضب، وما شكلك من شكله، ولا عقلك من عقله، ولا أنت من واديه.
ورفيق السفر، ممن تجمع جسدَيكما عربةُ القطار وروحَيكما الرغبة في دفع الملل، فيكون منك سلام ومنه كلام، وملاحظة لما ترى وجواب لما تسمع، وما هي إلا ساعات حتى تتشاركا في الطعام، وتتجاورا في المنام، وتَسّاقط بينكما الأستار، فيرى منك وترى منه ما لا يراه المرء إلا من ساكن بيته وذي قرابته، وما أنت منه ولا هو منك في ودّ ولا إخاء.

ورفيق القهوة ورفيق الملعب … وضروب من الرفقاء غير من ذكرت، ربما استمرت صلة المرء ببعضهم حتى سمّاهم أصدقاءه، وما هم بالأصدقاء، ولا اختارهم بمِلْكه ولا صاحبَهم باختياره، ولكن الحياة ألقتهم في طريقه وحملتهم على عاتقه، وإذا هو لم يُحْصِهم ولم «يَجْرُدهم» مثلَ جرد التاجر بضاعته، ثم يصنفّهم أصنافاً فيبقي على الجيد ويطرح الرديء، لم يَدْرِ إلى أي هاوية تسوق هذه الصداقات، لأن الصاحب ساحب، وكل قرين بالمقارن يقتدي.

ورُبَّ رجل سايرته في طريق أو رافقته في سفر أو عرفته في ديوان، فبذلت له من ظواهر الود ما يبذله الرجل المهذب لمن يلقاه وأنت لا تدري وجهته في الحياة، فنُسب إليك وعُرف بك، واتّصل بك شَرُّه أو أصابك ضُرُّه أو لحق بك عاره، وإذا هو قد ترك فيك أثراً منه من حيث لا تشعر.

وكل كلمة تَنصَبُّ في أذنك إنما هي بذرة كالبذرة التي تُلقى في الأرض المخصبة، قد تكون بذرة خير فتُنبت في نفسك خيراً، وقد تكون بذرة شر فتُنبت في نفسك شراً، ورُبَّ ناسٍ كانوا صالحين فأفسدتهم صحبة شرير بدّل حالهم وأشقى حياتهم، وناسٍ كانوا أشراراً فصلحوا بصحبة الصالحين، ومن كان مستريحاً من وخز الغريزة يشتغل عنها بعلم أو فن أو رياضة قلب أو جسد، فأوقد عليه نارَها وأذاقه أُوارَها صاحبٌ لا يدري من أين سقط عليه! وآخر يمشي في طريق النار فمشى به صديقٌ في طريق الجنة.
وليس الصديق الذي يذكّرك اللهَ كمن يُنسيك ذكره، ولا الذي يسوقك إلى المسجد للعبادة كمن يقودك إلى الماخور للفجور، ولا مَن يحدثك عن كتاب طالعه لتطالعه أنت كمن يصف حسن راقصة رآها لتسعى أنت إلى مرآها.

فإذا أردت الخَلّة التي تجمع خلال الخير، والعمل الذي يُصلح الأعمال كلها، فاكتب أسماء أصدقائك وأصحابك ومن تتصل به بروابط الود، وانظر إلى كل واحد منهم: هل هو صالح في نفسه أم هو غير صالح؟ وهل هو مخلص لصديقه أم هو لا يبالي إلا نَفْعَ نفسه ولذتها؟ وهل هو مؤنس لجليسه أم هو فقط مزعج غليظ؟
فإذا فعلت رأيت الرفاق على أنواع، ووجدت فيهم من هو صائم مُصَلٍّ له سَمْت المتقين وزيّ الصالحين، ولكنه يتخذ ذلك سلماً للدنيا وشبكة للمال، ووجدت حقيقته تكذّب ظواهر تُقاه، فإن عاهدته خانك، وإن عاملته غشك.

ووجدت فيهم من هو صادق المعاملة أمين اليد، ولكنه لا يصوم ولا يصلي وليس له من الدين إلا اسمه، فهو يفسد عليك دينك.
ووجدت فيهم من هو صالح متعبد أمين صادق المعاملة، ولكنه عارم الشهوة جامح الغريزة، لا حديثَ له إلا عنها ولا خَوْضَ إلا فيها، قد كفّ عن الحرام جوارحَه وأطلق فيه لسانه، فهو يؤذيك بإثارة الخامد من رغبتك وإيقاظ الهاجع من غريزتك.

ومن هو صالح في نفسه، أمين في معاملته، عفُّ اللسان طاهر الذيل، ولكنه لا ينفع صديقاً ولا يسعد صاحباً، ولو كان على الفرات وأنت تتحرق من الظمأ ما ناولك كأسَ ماء!
ومن يخدم صديقه ويُسِرّه، ولكنه لا يبالي في خدمته ومسرته أن يعطيه من دينه، فيخون من أجله أمانتَه، ومن عرضه، فيُنيله من باب الحرام لذته، ومن شرفه، فيعينه على أكل حقوق الناس وسرقة أموالهم، يرى كل ذلك في سبيل الصداقة جائزاً مباحاً، فيأخذ بيدك حتى يدخلك معه جهنم.
ومن هو دَيِّنٌ في نفسه مُعين لصديقه، واقف عند حدود الله، لا يقارف إثماً ولا يباشر محرَّماً، ولكنه يجهل طرائق المعاشرة وآداب المؤاكلة وكلَّ ما تواضع عليه المهذبون من الناس، فيأتي بما تَغْثي منه نفسُك وتَهيج أعصابُك.

ومن هو أحمق رقيع، أو فَحّاش طَيّاش، ومَن يصادقك لحسَبَك أو منصبك، فهو يتخذك زينة ليومه وعدّة لغده، فأنت عند حلية تجمّل الجدار!
* * *

فعليك أن تجعل الدين مقياساً ورضا الله ميزاناً، فمَن كان يفيدك في دينك فاستمسك به، إلا أن يكون ممن لا تقدر على عشرته، ومن كان يضرُّك فاطَّرِحْه واهجره، إلا أن تكون مضطراً إلى صحبته، فتكون هذه الصحبة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، بشرط ألاّ تجاوز في هذه الصحبة حدَّ الضرورة.

صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد