بين الصورة والحقيقة


إنَّ أكبر مهمة دينية في هذا العصر، وأعظم خدمة، وأجلها للأمة الإسلامية، هي دعوة السواد الأعظم للأمة وأغلبيتها الساحقة الى الانتقال من صورة الاسلام الى حقيقة الاسلام، فلمثل هذا فليعمل العاملون ويبذلوا جهودهم ومساعيهم في بث روح الاسلام في جسم العالم الاسلامي، ولا يدخروا في ذلك وسعا، فبذلك يتحول شأن هذه الأمة، وفي نتيجته شأن العالم بأسره، فإن شأن العالم تبع لشأن هذه الأمة، وشأن الأمة تبع لحقيقة الاسلام، فإذا زالت حقيقة الاسلام من الأمة المسلمة، فمن يدعو العالم الى حقيقة الاسلام، ومن ينفخ فيه الروح؟ قال سيدنا عيسى عليه السلام لأصحابه: “أنتم ملح الأرض، فإذا زالت ملوحة الملح فماذا يملح الطعام؟

قد أصبحت حياتنا اليوم جسدا بلا روح، لأن السواد الأعظم للأمة مجرد عن الروح، فارغ عن الحقيقة، فكيف تعود الروح والحقيقة في الحياة الانسانية مرة أخرى؟!
ان في هذا العالم أمما لا تزال فارغة عن الحقيقة والروح منذ أقدم العصور الى يومنا هذا، ولم يبق فيها الا عدة معتقدات مرسومة، وبضع صور حقيرة مجردة عن الروح، وانتهت حياتنا الدينية والروحية الحقيقية، حتى ان انشاء أمة بأسرها أيسر من اصلاح هذه الأمم وتجديد حياتها الدينية والخلقية، والذين نهضوا لإصلاحها، وبذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل قد أخفقوا ولم يفلحوا في مهمتهم، رغم الوسائل العظيمة الكثيرة التي حدثت في هذا العهد من الطبع والنشر، والتأليف والاذاعة، والتعليم والتربية، وطرق الدعاية والتأثير، وذلك لأن عروة دينها قد انفصمت انفصاما تاما، وانقطعت علاقتها عن منبع الحياة الدينية، والخلقية والروحية.

أما الأمة الإسلامية فلا تزال – على علاتها وضعفها – مستمسكة استمساكاً ما بعروة الدين، وهي الإيمان بالله والرسول، واليقين بالدار الآخرة والحساب، لم تتركها البتة، ولم تنقطع عنها انقطاع الأمم الأخرى، بل إن إيمان كثير من عامة المسلمين ودهمائهم يُزري بإيمان كثير من خواص الأمم الأخرى، وعليتهم، ويفوقه متانة ورسوخاً وحماسة، ثم ان كتابها لا يزال في يدها لم يتناوله التحريف، ولم يعبث به العابثون كما فعلوا بالصحف الأولى، ولا تزال سيرة الرسول وأسوته الحسنة بمتناول يدها، فالدعوة الى الدين ميسورة، والتجديد ممكن، والقلوب متهيئة، وجمرة الايمان سريعة الاتقاد، والشقة بين الصورة والحقيقة قصيرة، والقنطرة بينهما الدعوة الى تجديد الايمان، والرجوع الى الدين، والتشبع بروحه والتحلي بحقيقته.

لست قانطاً من ظهور حقيقة الإسلام في هذا العصر، ولا نصدق أبداً بأن الزمان قد تغير والمسلمين قد ابتعدوا جدا عن روح الاسلام، فلا أمل في حقيقة الاسلام وغلبتها من جديد، انظروا الى ورائكم ترون جزر حقيقة الاسلام قائمة منتشرة في فجر التاريخ، وان الحقيقة لم تزل تطفو كلما رسبت وتظهر كلما اختفت، وكلما ظهرت حقيقة الاسلام وتجلت في ناحية من نواحي العالم الاسلامي أو عصر من عصور التاريخ الاسلامي، غلبت وانتصرت، وكذبت تجارب الناس وقياسهم وتقديرهم، وكادت الأحوال والأمور أن تعود الى ما كانت عليه في الماضي السعيد، وهبت على قلوب الناس نفحات القرن الأول، وان حقيقة الاسلام في هذا العصر اذا ظهرت وتمثلت في جماعة، تستطيع أن تذلل كل عقبة، وتهزم كل قوة، وتأتي بعجائب وآيات من الايمان والشجاعة والايثار، يعجز الناس عن تعليلها كما عجزوا من قبل عن تعليل حوادث الفتح الاسلامي، وأخبار القرن الأول.

من كتاب: إلى الإسلام من جديد، لأبي الحسن الندوي رحمه الله

منتدى سلطان العلماء

 

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد