الشفاء


كان مصاباً بالسل، ولكنه سل غريب قاتل؛ لم يكن في الرئة ولا في الأمعاء، بل كان في النفس، في الفكر، فكان يعطل شعوره وتفكيره ويخنق حياته ويهد كيانه … كان مصاباً بـ «داء الحب».

خمدت جذوة قريحته، وتعطلت ملكاته كلها، وضاع ذكاؤه وبادت فطنته، وضاق كل شيء في نظره فأصبح يراه مقتضباً مختصراً: المسرات كلها اختُصرت في لقاء مَن يحب، والآلام في فراقه، والواجبات كلها في إرضائه، والمحرمات كلها في إغضابه، واختصر كتاب حياته وطمس اسمه وعنوانه، فكان حاشية صغيرة على هامش حياة التي يحبها، واختصرت الدنيا الطويلة العريضة المليئة بالفضائل والأمجاد، الفياضة بالجمال والحقيقة والخير، فكانت كلها هذه المرأة!

وأقهَمَ عن الطعام (أي لم يشتهه لمرض أو علة) واجتواه (أي كرهه)، وأصبح خالفاً لا يشتهيه
ولا يميل إليه، وإذا اضطر أكَلَ أكْلَ من قزَّت نفسه واكتفى بلُقيمات ما يقمن صلبه، كأنّ هذا المرض لا يرضيه ما يفسد من النفس حتى يحطم الجسم! وأصابه الأرق، فأمسى يبيت ليله سهران مسهَداً، وإذا رنَّق النوم في عينيه (أي خالطهما ولم ينم)، وغلبته حاجة جسمه خفق خفقة ثم أفاق فَزِعاً، يفكر في هذا الإنسان، يخاف أن يطير مع الأنفاس، أو يسيل مع الدمع، أو يغْرق في بحر عينيه!

فهَزُلَ جسمه وخارت قواه وتراخت مفاصله، وشحب وجهه، وآض ساهماً رازماً، ضعيفاً مُخَبْخَباً، ولم يعد يعيش إلاّ على المجاز؛ يعيش بذكرى أيامه الماضية قبل أن يصيبه هذا السل، أيام كان ذا جسم قوي وفكر ثاقب وقلب شاعر … ولم يعد ينتفع بنفسه أو ينتفع بها الناس بشيء، لأنه أصبح لا لنفسه ولا للناس ولا للحياة، ولكن لإنسان واحد يحبه.
وهكذا الحب أبداً: مرض في الجسم، وضيق في الفكر، وفرار من حومة الحياة!

وكان أمس، وكان يوماً من أيام الخريف في بغداد، هبت فيه الرياح خرقاء هوجاء مُعصِفة، تُذَعذع الأشجار، وتثير الأوراق، وتكسر الأغصان، وتمتد إلى كل شيء في الطبيعة فتعيث فيه وتعبث به، وتدفعه من ههنا وههنا … معتكرة تسفي التراب وتحمل هذا الغبار الناعم الدقيق الذي يملأ الجو ويخالط كل ذرة من ذرات الهواء، وينتشر في السماء كمثل السحاب، يمنع الشمس ويحجب المرئيات، ولا يمنع منه شيء، فهو يدخل الغرف مهما أحكمت إغلاق الباب وضبطت النوافذ، وينفذ من خلال الثياب مهما كانت حصيفة محكمة، ويخش في العيون والمناخر والآذان وفي أصول الشعر، ويمر إلى أجواف الصناديق وبطون الخزائن وقلوب الساعات … بل إنه -لدقته وخفته وسرعته- ليكاد يدخل في نفسه!

وكان على صاحبنا أن يغدو إلى عمله في بغداد، وكان ينزل ضاحية من ضواحيها، فتردد ثم لم يجد من الأمر بداً، فتحزّم وتدثّر وتعطّف بمعطفه الثخين، والْتَحَفَ فوقه بالمِمْطَر (المشمّع) يتقي به المطر، ولف شَملة على عنقه، ولبس قفازيه، وأخذ عصاه فتوكأ عليها، وسار الهوينى لا يطيق حراكاً؛ لكثرة ما يحمل من ثياب، ولطول الطريق وشدة الرياح، وما به من الضعف والإعياء.
وكان وحده في طريق (الصُّلَيْخ)، لم يجد سيارة يركبها ولا قوماً يصحبهم، فنزل ماشياً. وكان الطريق طويلاً على طرفيه النخيل تعبث به الرياح، فتميل بجذوعه وتحرك أغصانه فتفرقها ثم تجمعها، فتبدو كأنما هي مراوح ضخمة تحركها يد لا تُرى فتُروِّح بها على وجه الدنيا، وكانت تظهر أوائلها وتغيب أواخرها في هذا السحاب الترابي الذي يغطي على كل شيء ويصل الأرض بالسماء، فترى الطريق كأنه صاعد إليها، أو تراها كأنها هابطة إليه! وكانت الرياح زَعْزَعاً شديدة، تميل بالأشجار وتعصف بالغصون، ولم يكن ثابتاً وسط الرياح إلا صاحبنا بعصاه وضَعفه وأحماله ولَحَظَ ذلك من نفسه، وأعجبه أن يلحظه ويفكر فيه، وعراه شيء من الاعتداد بالنفس، وازداد حتى ملأه الشعور بقوّته، فجعل ينظر في عِطْفيه زهواً وتيهاً، وجعل يتأمل دخيلته ويفكر في نفسه: مَن هو؟ وما هذه الحياة التي يحياها؟ …

واشتدت الرياح وعزفت، ثم صفرت صفيراً، فلم يبالِ بها ولم يحفلها، لأنّ زوبعة أخرى أشد هولاً قد هبّت في نفسه … تنطح هذا الجبل وتريد أن تنسفه. فوقف يفكر: لماذا يضيّق حياته بيده؟ لماذا يعطل فكره وملكاته؟ أكل ذلك لأنه وجد إنساناً جميلاً ظن أنه يحبه؟
لتكن جميلة أو قبيحة، ما شأنه هو بها؟ ومَن قال إنه لا يعيش إلاّ بها؟ ماذا كان يصنع قبل أن يعرفها؟ ألم يكن يعيش؟ ألم تكن حياته أجمل وأحفل بالعظائم وأملأَ بالفضائل؟ هل كان هذا الحب إلاّ مرضاً عُضالاً هدَّ جسمَه ومحا مواهبه وفلَّ عزيمته، وأقام بينه وبين الحياة سداً من لحم ودم؟

يا للسخف! أيحكم على نفسه بالألم الدائم والقلق المستمر، ليحظى ذلك الإنسان بالسرور والاطمئنان؟ أيوجب على نفسه الشحوب لأنها مورّدة الوجنتين؟ أيختار المرض والهزل لمجرد أنها صحيحة بضّة؟ …
يا للخجل! ألا يرى الدنيا إلاّ في عيني هذا الإنسان؟ أيقنع من السعادة والمجد والعلم والبطولة والدفء والنور والحياة بابتسامة واحدة؟ وبدا له الحب كأسخف شيء يكون!
وكانت الدنيا قد استُطير لبها وجُنَّ جنونها، وهطلت الأمطار سريعة قوية تضرب وجهه … فأحس بالقوة والنشاط، وجعل ينشق ملء رئتيه وتبرق عيناه بريق العزم، ثم ألقى عصاه وشملته ونزع عنه هذه الأحمال من الثياب … وانتفض وضرب الفضاء بقبضتيه، وصاح صيحة الفرح: قد شُفيت!
ثم انطلق نحو الدنيا الواسعة … لم تعد محرَّمة عليه، لأنه لم يعد يحب!

مقال للأستاذ الأديب علي الطنطاوي رحمه الله
من كتاب حديث النفس

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد