في القناعة سلامة الدنيا والدين


رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة، وتنسى كيف حصلت، وما يتضمنها من الآفات.
وبيان هذا:
أنك إن رأيت صاحب إمارة سلطنة، فتأملت نعمته؛ وجدتها مشوبة بالظلم: فإن لم يقصده هو؛ حصل من عماله. ثم هو خائف، منزعج في كل أموره، حذر من عدوان أن يسمه، قلق ممن هو فوقه أن يعزله، ومن نظيره أن يكيده. ثم أكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من السلاطين، وفي حساب أموالهم، وتنفيذ أوامرهم، التي لا تخلو من أشياء منكرة. وإن عزل، أربى1 ذلك على جميع ما نال من لذة. ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها ومنها وعليها.
وإن رأيت صاحب تجارة، رأيته قد تقطع في البلاد، فلم ينل ما نال إلا بعد علو السن، وذهاب زمان اللذة، كما حكي أن رجلًا من الرؤساء كان حال شبيبته فقيرًا؛ فلما كبر، استغنى، وملك أموال، واشترى عبيدًا من الترك وغيرهم، وجوار من الروم، فقال هذه الأبيات في شرح حاله:

ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرين … ملكته بعد أن جاوزت سبعينَا
تطوف بي من الأتراك أغزلة … مثل الغصون على كثبان يبرينا2
وخرد من بنات الروم رائعة … يحكين بالحسن حور الجنة العينا3
يغمزنني بأساريع منعمة … تكاد تعقد من أطرافها لينَا4
يردن إحياء ميت لاحراك به … وكيف يحيين ميتًا صار مدفونَا
قالوا: أنينك طوال الليل يسهرنا … فما الذي تشتكي؟ قلت: الثمانِيْنَا

وهذه الحالة هي الغالبة؛ فإن الإنسان لا يكاد يجتمع له كل ما يحبه إلا عند قرب رحيله، فإن بدر ما يحب في بداية شبابه، فالصبوة5 مانعة من فهم التدبير أو حسن الالتذاذ.
والإنسان في حالة الصبوة لا يدري أين هو؛ إلا أن يبلغ: فإذا بلغ، كانت همته في المنكوح كيفما اتفق. وإن تزوج، جاء الأولاد، فمنعوه اللذة، وانكسر في نفسه، وافتقر إلى الكسب عليهم. فبينما هو قد دعك6 في تلك المديدة القريبة “من” الثلاثين وخطة الشيب7، فانفرق من نفسه، لعلمه أن النساء يتفرقن منه، كما قال ابن المعتز بالله8:

لقد أتعبت نفسي في مشيبي … فكيف تحبني الخرد الكعاب9

فإذا فهم المتمتع بالمستحسنات، وخرج من طلب صورة النكاح؛ لم يجد مالًا يبلغ به المراد، فإن كسب ضاع زمن تمتعه، وإذا تم المطلوب، فالشيب أقبح قذى10، وأعظم مبغض.
ثم إن صاحب المال خائف على ماله، محاسب لمعامليه، مذموم إن أسرف وإن قتر، ولده يرصد11 موته، وجاريته قد لا ترضى بشخصه، وهو مشغول بحفظ حواشيه12؛ فقد مضى زمانه في محن، واللذات فيها خلس13 معتادة، لا لذة فيها. ثم في القياة يحشر الأمير والتاجر [خزايا] إلا من عصم الله، فإياك إياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم؛ فإنك تستطيبه لبعده عنك، ولو نلته برد عندك14، ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة ما لا يوصف، فعليك بالقناعة مهما أمكن، ففيها سلامة الدنيا والدين.
وقد قيل لبعض الزهاد، وعنده خبز يابس: كيف تشتهي هذا؟ فقال: أتركه حتى أشتهيه.

من كتاب: صيد الخاطر للإمام ابن الجوزي رحمه الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أربى: زاد.
2 أغزلة: جمع غزال، و “يبرين” قرية كثيرة النخل والعيون العذبة بحذاء الأحساء من بني سعد بالبحرين.
3 الخرد: جمع خريدة: الفتاة البكر، و “يحكين” يشابهن، و “حور الجنة” نساؤها، و “العين” بكسر العين: واسعات أحداق العيون.
4 الأساريع: دود بيض حمر الرؤوس، تشبه بها أصابع النساء.
5 الصبوة: الصِّبا
6 دعك: تمرَّس.
7 وخطه الشيب: انتشر الشيب في رأسه.
8 عبد الله بن محمد المعتز بالله، أبو العباس “247-269هـ”: الشاعر المبدع، خليفة ليوم وليلة، لقب بالمرتضى بالله.
9 “الكعاب” جمع كاعب: وهي التي قاربت البلوغ فبرز نهداها.
10 قذى: ما يؤذي العين.
11 يرصد: يرتقب.
12 حواشيه: أقاربه وأعوانه.
13 خلس: منتهزة.
14 في بعض النسخ المطبوعة: لو بلغته كرهته.

شاركنا بتعليق






  • الحياة هي الرضا ومن رضي عاش وإن عايش أقسى الظروف ولا ننس قول النبي صل الله عليه وسلم (من بات معافى في بدنه آمن في سربه،عنده قوت يومه ،فكأنما حيزت له الدنيا)نسأل الله ان يجود علينا بثوب القناعة ويرضينا على كل حال

  • نفع الله بكم