تأمُّلاتٌ ولَطَائِف ونَفحَات


مِنْ وَحيِ سُورَة الحُجُرَات

1/1 ـ الأدب مع الله سبحانه، والأدب مع رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، يتَمثَّل في حقيقة كبرى شاملة، وهي: التلقِّي عن الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم في كلِّ شأن، وعدم التقدُّم على أمر الله وأمر رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم في أيِّ شيء، فكما أن ذلك أصل إيمانيٌّ فهو أعظمُ أصلٍ أخلاقيٍّ تربويٍّ، ينتظم سائر الآداب التي تتحدَّث عنها سورة الحجرات وتنبثق عنه.

ومن هذا الأدب ينبثق الأدب مع النفس والأدب مع الآخرين، والأدب في السرِّ والعلانية، والأدب في حركات الجوارح وهواجس الضمير.

ويخطِئ ويضلُّ السبيلَ مَن يزعم لنفسه حسن الخلق، وهو مستهتر بحقِّ الله وحقِّ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، مع أنَّه حريص على علاقاته الاجتمَاعيَّة الحسنة مع الناس..

فأيُّ الحقوق أولى بالرعاية، وكيف يتأتَّى أداءُ الحقِّ الأَدنى مع التفريط بالحقِّ الأعلى وإهماله؟

أم أنَّ الأخلاقَ الاجتماعيَّةَ عند هؤلاء لا تعدو أن تكُون نوعاً منَ المجاملة المتصنَّعة، التي لا تُشبه الأخلاق الإسلاميَّة ولا تدانيها..

2/1 ـ يُقاس على النهي عن التقدُّم بين يدي الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ومع ملاحظة الفارق الذي لا يُنكر ولا يخفى ـ التقدُّمُ بين يدي وليِّ الأمر الصالحِ والوالدَيْن أو أحدهما، فليس من الطاعة ولا البرِّ التقدُّم بين أيديهم، والتجاوز لحقِّهم في التقديم والتكريم، ويتأكَّد ذلك، وتفحش مخالفته كلَّما علا مقام وليِّ الأمر، وظهر فضل الوالدين وعرف صلاحهما.

3/1 ـ ﴿لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ﴾: كلُّ خروج عَن طاعَة اللهِ وَرَسُولِهِ صلَّى الله عليه وسلَّم هوَ نوع من التقدُّم بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ، ولو كانَ بلسان الحال دونَ المقال، ولكنَّ الدوَافع تختلِف؛ فإذا كان الدافِعُ الخطأ أو النسيان أو غلبة هوى النفس فهذا ممَّا يُرْتَجى مغفرته، لأنَّ المؤمَّل من العبد أوبته، أمَّا إذا كان الدافِعُ تجاوُزَ العبوديَّة، والتطاولَ على مقام الربوبيَّة، فذلك مِنْ منهج إبليس اللعين، الذي قالَ: ﴿أنَا خيرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ الأعراف: 12، ويَقوم منهَجه على الكِبْر والغرور، وجحود النعمة، ونكران المنَّةِ، ولا ينتظر من صَاحبه إلا أن يقولَ: ﴿أنَا رَبُّكُمُ الأعلَى﴾ النازعات: 24، إلا أن يتوبَ الله عليه.. وقليل ما هم..

4/2 ـ إنَّ رفعَ الصْوت فوق الحاجة رعونةٌ وقلَّة أدبٍ، لا تَليق مع أحد، فكيف إذا كانت مع سيِّد الخلق وأشرف المُرسلين عليه الصلاة والسلام؟! ولكنَّ مَنْ ألِفَ مستنقع الرعونة وقلَّة الأدب في جميع أحواله فأنَّى له أن يعرف الأدب مع الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم!

5/ 2 ـ ﴿وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾: أنْزلوا الناس منازلهم.. فليسَ من العدل أن تُعامل الناس بالسويَّة وبينَهم منَ الفروق الفرديَّة كما بين السماء والأرض..

6/2 ـ ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾: ربّما تَحْبَطَ الأَعْمَالُ فيشعر الإنسان بحبوطها، وَرُبَّما تَحْبَطَ ولا يَشْعُرُ، وتلك مُصيبةٌ أدهى، وعُقوبةٌ أَمرُّ.. فكيف للعبد أنْ يشعر بحبوطها؟

إنَّ ذا القلبِ الحيِّ، والفكر المبصر اليقظ يستشعر ذلك وحشةً في روحه، وضيقاً في صدره، وخذلاناً عن العمل، وفقداً في الخلوة للأنس..

وأما من يرتكب الذنب الأكبر، ويصرُّ عليه، فكيف له أن يشعر بالعقوبة، ويتحسَّس شيئاً من آثارها؟

7/3 ـ التَّقْوَى الباطنة لا بدَّ لها أن ترشح ثمراتها الطيِّبة، فتزيِّن الظاهر، وتُجمِّله بأبهج صورة، وأجمَل حلَّة، ومن ادَّعَى خلاف ذلك فقد خدع نفسه وأوهم وافترى..

8/ 3 ـ ﴿امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾: ما امْتَحَنَك إلا ليمنحك، وإنَّما تكون المنحة بعد المحنة لِتَعظم في نفسك النعمةُ والمنَّةُ.

9/ 3 ـ ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾: وهل يكون الجزاء من العظيم إلا عظيماً؟!

10/ 4 ـ ﴿أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾: من لم تدفعه الخشيَة لترك المعصية فليدفعه العَقل، ومن لم يدفعه العقل فلتدفعه المروءة والحياء، ومن لم تدفعه المروءة والحياء فأيُّ خيرٍ فيه، وصدق رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إذا لم تَستَحِ فاصنَعْ ما شِئتَ).

11/ 4 ـ ﴿أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾: لا يُكرِمُ المرءَ إلا عقلُه، ولا يكشف نُبلَه إلا عقلُه، ولا يرفع قدرَه إلا عقلُه، ولا يسفُّ به إلا إهمالُ عقله، ولا يحقر قدره إلا تسلُّط هواه على عقله! فهل بعد ذلك من يدّعي أنَّ الإسلام يقلِّل من قَدْر العقل، أو يقبل تعطيله؟!

12/ 5 ـ ﴿وَلَوْ أنَّهُمْ صَبَرُوا﴾.. رُبَّما ظنَّ بعض الجاهلين الصبر ضعفاً أو عجزاً.. وكم يثمر الصبر من خيرات، وكم تختبئ وراءه من بركات وحسنات!

13/ 5 ـ ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: ما أحسن صفح الكريم بعد عتابه، وعفوه بعد تقرير العبد بالتقصير، ولكن شتَّان مَنْ قصارى حاله المغفرة، وبين من تحلَّى بالأدب فله مغفرةٌ وأجرٌ عظِيمٌ!

14/ 6 ـ ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾: ليس المهمّ ما يأتيكَ من الأخبار، وإِنما المهمُّ من يأتيك بالأخبار..

15/ 6 ـ عنوان فسق الإنسان أن يقبل خبر الفاسق وهو يعلم بفسقه.

16/ 6 ـ أفسقُ فَاسِقٍ قريبٍ منك ولا تحذره: نفسُك الأمَّارةُ بالسوءِ، عندما تلقي إليك بالظنون بلا تحفُّظ ولا اكتراث، وتزيِّن لك التهم والأباطيل، فهلا وقفتَ من نفْسك الأمَّارة بالسوء كما تقفُ مِنْ ناقل الأخبار الكاذب؟

17/ 6 ـ الهوى فاسقٌ وشاهد زور! فرُبَّما زكَّى الهوى شهادة الفاسقين، وشكَّك في شهادة المزكَّين، فاحذر هواك أكثر ممَّا تحذر عدوَّك، وهل غلبكَ عدوُّك إلا بهواك.

18/ 6 ـ ﴿فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ﴾: كفى بالرويَّة عقلاً، وكفى بالتسرُّع جهالة.

19/ 6 ـ النَّدمُ نِعمةٌ لإِصلاح ما فسد، وأوَّلُه وأقلُّه: عذابُ الضمير الذي هو وقود التغيير.

20/ 7 ـ ﴿وَاعْلَمُوا أنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ﴾: الكبار القدوة عصمة من الفتن، وصِمَامُ أمانٍ للصغار.

21/ 7 ـ ﴿لَعَنِتُّمْ﴾: إنَّما نصنع عنتنا بأيدينا، ولكنَّنا كثيراً ما نتَّهم غيرنا.. وتحبيبُ الإِيمَان عصمة من العنت وشفاء لِـمَا في الصدور.

22/ 7 ـ ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ﴾: من لم يطِع الرحمن، واستمرأ المخالفة والعصيان، فليبكِ على نفسه لأنَّه لم يحَبَّبَ إِلَيه الإِيمَانُ، وهل تكونُ طاعة بغير تحبيب الإيمانِ، وتزيينه في القلوب؟!

23/ 7 ـ تحبيب الإيمانِ، وتزيينه في القلوب، سرٌّ من أسرَار الحفظ من الذنوب، وتثبيت الإيمان في القلوب، وما انتكس من انتَكس بعد هدىً ظاهِر إلا من خراب في القلب غائر: (ألا وإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً)..

24/ 7 ـ الإيمان زينة القلوب، والإسلام زينة الجوارح، والإحسانُ زينةُ الكيانِ الإنسانيِّ كلِّه، وهي نِعَمٌ ومِنَن، توهب أكثر ممَّا تُكتسب، ولكنّ العبد يصدق في طلبها ويتسبّب.

25/ 7 ـ وجود القدوة والرجوع إليه وطَاعته، عصمة للمُؤْمِنِينَ من الاختلاف والاقتِتَال، فليحذر القدوات أن يقفوا في الفتن مواقف السلبيَّة والاعتزال، فذلك تخلٍّ عن المسؤوليَّة، وربما كانت له عواقب غير محمودة.

26/ 8 ـ مِنْ أعظم النعم على العبد شهود المنَّة والفضل في كلِّ حال، ومن شهد المنَّة والفضل عظمت في نظره النعمة وجلَّت، ودامت عليه، واتَّصلت بأمثالها، وبما هو أكبر منها وأعظم.

27/ 9 ـ الفئة المصلحة بين طَائِفَتَينِ مِنَ المُؤْمِنِينَ تُعَدُّ أعلى شأناً، وأرفع قدراً من كلا الطَائِفَتَينِ، بما تضطلع به من مهمَّة الإصلاحِ التي هي من مهامِّ الأنبياء.. ولكنَّها لن تستطيع ذلك ما لم تكن متحلِّية بصفاتٍ ومؤهِّلات، تجعلها تقوم بهذه المهمَّة بجدارة واقتدار.

28/ 9 ـ الآيات من قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ﴾ إلى قوله سبحانه: ﴿إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ بالتأمُّل فيها يستشعر الإنسان وكأنَّها تشير إلى ما سيحدث بعد وفاة النبيِّ عليه الصلاة والسلام، من فتنة بيْن المسلمين إثر مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه، وما تبع ذلك من فتن وخلافات، وما جرَّ وراءه على الأمّة من مصائب وآثار، لا تزال الأمّة تعاني منها إلى يومنا هذا..

وكان المرجَّى أن تبرز في الأمَّة تلكَ الفئةُ المصلِحة، التي لا تقاتل مع إحدى الطائفتين، وتدعو كلا الفريقين إلى خُطَّة صلح، تُحقن فيها الدماء، وتُحفظ الحرمات، وتصان وحْدة الأمَّة، فلا تعصف بها الفتن.. ولا تبدأُ في كيَانها التشوُّهَات.. ولكن حدث جزء مِنْ هذا الأمر، وهو الاعتزال، ولَم يحدث الجزء الآخر، فلماذَا؟

ليس هُنا موضع بحثِ ذلك، ولكنَّ ما يَعنينا هُوَ: كيف تبرز هذِه الفئَة، وتأخذ دورها، وتَقُوم بمسؤوليَّتها في مثل تلك الأَحوال؟ إنَّ الأمرَ باختصار يعود إلى التكوين السويِّ النوعيِّ المتميِّز الَّذِي يتحقَّق في شخصيَّاتهَا: فكرياً ونفسياً وروحياً.

29/ 9 ـ إنَّ كُلَّ خلاف بين فئتين قد يتمادى إلَى الاقتِتَال والاحتراب.. والأَصل أَنْ تقِف الأمَّة كلُّها دون هذا المنزلَقِ الخطير، ولكنَّ الواقع نادراً ما يشهدُ مثل ذلك، كما أنَّ سنَّة الحياة أنْ تقف مع كلِّ طائفة فئةٌ مِن الناس، وأَن تبقى فئةٌ مِن الناس لا تنتمي إِلى أَيٍّ مِن الطائفتين، وهُنا تكونُ مثل هذه الفئة مرشَّحة للقيام بمسؤوليَّة الإصلاح ورأب الصَّدْع، حتَّى تعود الأمَّة إلى وَحدة صفِّها واجتماع شملها..

30/ 9 ـ ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى﴾: أوَّل البغي: الانفراد بالرأي، وترك الشورى، فمن أراد أن لا يكُون من أهل البَغي فلا ينفَرِدنَّ برأيِه ولا يزهدنَّ بمشورة إخوانه.

31/ 9 ـ الفيءُ إِلَى أَمرِ اللهِ مفتاحُ الحلِّ لمشكلات البشريَّة كلِّها، ولكنَّ الإنسان ظلوم جهُول، مُدَّعٍ مغرور، كثيراً ما يحسب نفسه قادراً على كُلِّ شيء، فيُخَرِّب بِيَدِهِ ما لا يقدرُ عَليه عدوُّه..

32/ 10 ـ أُخوَّة المؤمنين ميزان من موازين التقوى، التي يستهتر بها كثير من المنسبين إلى الدعوة، ويتجاوزها تحت دعوى الغيرة على الإيمان والعقيدة، ومن فرض هذا الميزان على عباده أغير على دينه من كلِّ مُدَّع أو مزايد، نسأل الله تعالى أن يلزمنا سبيل الأدب والاستقامة، إنَّه سميع مجيب.

33/ 11 ـ ﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾: كُلَّما نضِج الإنسان تربِيةً وأَخلاقاً وجد نفسه أَكثر في نفع الآخرين، وكفِّ الأذى عنهم، ووجد إيذاء الآخرين إيذاء لنفسه وتعدِّياً عليها.

34/ 11 ـ ﴿بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ﴾: إنَّ من سُبل إصلاحِ النفس وتهذيبها أنْ يقارن الإنسانُ بين ما يخسر ومَا يربح، فذلكَ من أكبر الدوافع إلى عدم الرضا بالواقع، والسعي في تغييره.

35/ 11 ـ ﴿لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ﴾: لم يقل القرآن: (لا يَسْخَرْ بعضكم من بعض)  كما قال في النهي عن الغيبة: ﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾، وذلك ليشمل النهي السخرية من العدوِّ، لأنَّها شرٌّ وبيلٌ وداء خَطير.. والسخرية مبدأُ كلِّ شرٍّ في حياة الفرد الجماعة، فهي تعمي الإنسانَ عن مزايا الآخرين وفضائلهم، وتجعله يستهين بقدراتهم وطاقاتهم، ولا يبالي بمواهبهم وإمكاناتهم..

فإن كانوا من الأعداء فوجئ الساخر بغلبتهم وتمكُّنهم، وظلمهم وقهرهم، وهذا ما وقع لهذه الأمَّة على فترات مختلفة من تاريخ صراعِها مع أعدائها، وقد يغفل بعض الناس عن الخرق الذي أتينا منه، وإنَّما مبدأ الأمر كان سخريةً واستهانة، ورَّثت غفلة واستهتاراً، ثمَّ آلت إلى غلبة الأعداء، وانبهار الأبناء، والولوع بالتقليد وَالتبعيَّةِ، وضعف الحيلة عن مقارعة من كانوا بالأمس موضع السخرية والاستهزاء!

وإن كانوا من الأتباع والأولياء كانت السخريَة سبباً لتقطيع الأواصر، وتمزيق الروابط، وتشتيت طاقات الأمَّة وتبديد كفاءاتها، وكفى بذلك ما يؤكِّد النهي عنها..

36/ 12 ـ ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾: إذا كنَّا نُهينا عن الكثير خشية الوقوع فيما فيه الإثم القليل، فكيف لا نُنهَى عن القليل الذي يجرُّ إلى الإثم الكبير؟! فما أكثر ما ترتكب المآثم الكبيرة بدعوى المحافظة على فضائل وكمالات صغيرة! وقديماً كان ما يروى عن جحا من المحافظة على السنَّة وترك الفريضة طرفة من الطرائف، فأصبح اليوم منهجاً لبعض الناس ينافحون عنه ويدافعون، ويظنُّون أنَّهم به ينصرون دين الله ويعزُّون كلمته.. وإنَّما الفقه في الدين خير ما يعطاه المتَّقون العابدون..

37/ 12 ـ ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾: الفطرة السويَّة خطُّ الدفاع الأخير عَن الحقِّ وأحكامه، والاستعانة بها خير مَا يعيننا عَلى دعوةِ الإنسَان وإصلاح واقعه، وإِذا فسدتِ الفطرة ضَعف الأملُ  في إصلاح الإنسان وفيئته.

38/ 12 ـ ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾.. الأَمر بالتقوى يتكرَّر في ثلاث آيَات سابقَة: وَاتَّقُوا اللهَ.. وَاتَّقُوا اللهَ.. وَاتَّقُوا اللهَ.. قبلَ أن تقرِّر الآية التالية هذا المبدأَ العظيمَ: ﴿إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ممَّا يشِير إلى أنَّ التعامل مع هذا المبدأ ليس شعاراً يطرح، وليس التعامل به يأتي من فراغ، وإنَّما يحتاجُ إلى ثلاث مستوياتٍ منَ التقوى، ليرتَفع الإنسان إلى مستوى هذا الشعار وسُموِّه.

39/ 14 ـ ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا﴾: كم في الناس من أَعرابٍ في دينهم، يحملونَ ألقاباً علميَّة أو اجتماعيَّةً خادعةً، وَهُم فارغون من كُلِّ منقبةٍ أو فضيلةٍ، ويزيدونَ على الأعراب الدعاوَى الفَارغة في كُلِّ شيء.

40/ 13 ـ الاختلاف تنوُّع جعله الله تعالى آية من آياته، ونعمة على الإنسان تدفعه إلى التعارف والتعاون، واتَّخذه كثير من الناس سبيلاً للتنازع والقطيعة، والعداوة والبغضاء.

41/ 14 ـ ﴿قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا﴾: من طبيعة الإنسان محبَّة الكمال، وهي تدعو إلى ادِّعاء الكَمال.. ولو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى أناس أموال قومٍ ودِماءهم..

42/ 14 ـ ﴿قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾: الدعاوَى حجاب عن الحقِّ قاتِل، والاعترافُ بالنقص أوَّلُ الرقِيِّ في سلَّم الكمال..

43/ 14 ـ ﴿وَلَـمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾: الإِيمَانُ أعزُّ بضاعة عرفتها القُلُوب، فهَل يمكنُ أنْ تدخلَ والقلوب مليئة بالشهواتِ والشبهَات، والرعونات والدعَاوى؟! فإذا أردنا أن يدخلَ الإيمانُ القلبَ فلا بدَّ لنا أنْ نهيِّء القلْبَ لاستقباله، وخَير ما يُهيَّأ به القلب: التَّذلُّلُ بين يدي خالقه، والاعتراف بِتقصيره وتفريطه.

44/ 14 ـ ﴿لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: يشير خِتام الآية إلى أنَّ القَبول لابدَّ أَنْ يحفَّه العفوُ الإلهيُّ والتجاوز، وإلا فأيُّ عمل منَ العبد يليقُ بحقِّ العبوديَّة وجلالها؟!

45/ 15 ـ ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾: كم صدَّ الريبُ الإنسانَ عن خير! وكم ثبَّطه عن مغانم، وزيَّن له أنَّها مغارم! وكم حجزه عنِ اتِّخاذ القرار في وقته المناسب، فباء بالخزي والخسارِ!

وكم انتقصه من العمل فانتقص من دينه ويقينه، وحجبه عن مقامات القرب والتمكين! كما قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ السجدة: 24، فمن أعطي الصبر واليقين أعطي الإمامة في الدين.

46/16 ـ ﴿قُلْ: أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ﴾؟!: تشير الآيَة إلى بطلان القول بما يلزم عنه من حال أو قول، وذلك أنَّ الله تعالى دلَّل على فساد دعواهم بما يلزمُ عنها من ادِّعاء باطل بأنَّهم يُعلِّمون الله ما لا يعلم! وفي هذه الإشارة ما يؤيِّد من ألزم الخصم بلازم قوله أو مذهبه.

47/16 ـ رُبَّما كانت إساءة الأدب تهدِّد بنقض عقد الإيمان، قارن هذه الآية بما جاء في الآية الأولى، يقول الإمام ابن المبارك رحمه الله: (من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة)، فأيُّ رفعة لأمر الأدب مع الله ورسوله عليه الصلاة والسلام آكد من هذا؟!

48/17 ـ ﴿بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾: الهداية للإيمان إشراقة روح، وانشراح صدر، ولا يذوق لذَّة الإيمان والهدى إلا من شهد مِنَّة الله عليه في كلِّ شيء، وشهد شدَّة ضعفه ومسكنته، وافتقاره وحاجته إلى الله تعالى في كلِّ شيء..

49/18 ـ الصدقُ مِعيارُ صِحَّةِ العلاقةِ بدين الله وسلامتِهَا في كلِّ أمر، وهو مفتاح القبول عند الله، وباب العطاء والفتوح، فمن فقد ذلك فليتفقَّد صدقه مع ربِّه، ﴿فإذا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيراً لهُم﴾ محمد: 21.

50/18 ـ وبعد؛ فما أبلغَ الارتباط بين الختام والابتداء، فمن يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ سبحانه، وهُوَ بَصِيرٌ بِمَا يعمَلُ العبادُ، لا تَخفى عليه خَافية أحقُّ أن لا يتقدَّم العبادُ بينَ يديه، وبينَ يدي رسوله عليه الصلاة والسلام المبلِّغ عنه، ويشير ذلكَ إلى وَثيق الاتِّصال غالباً بينَ مبادئ الأمور وخواتِمهَا، وليتقرَّر في يقين المؤمن أنَّ أيَّ حكم من أحكام التشريع في دينه له وزنه العقدي النوعي، فأي انتقاص منه ينتقص من وزنه العقديِّ النوعيِّ بقدره

الدكتور عبد المجيد البيانوني

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد