شبهة ناقصات عقل ودين


الحمد لله والصلاة والسلام على سيد ولد آدم رسول الله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

جاء الإسلام وحرر المرأة من عادات وتقاليد موروثة تنظر إلى المرأة نظرة دونية، وهي عادات وتقاليد جاهلية، لكنها عادت إلى الحياة الاجتماعية في عصر التراجع والضعف الحضاري للمسلمين، فقد وجد حياة المجتمع المسلم شعوباً لم تتخلص من تلك التقاليد الجاهلية، والتي تكون عادة أشد رسوخاً من القيم الجديدة.
حاولت هذه التقاليد أن تجد لها طريقاً شرعياً من خلال التفسيرات المغلوطة لبعض الأحاديث النبوية، من خلال عزل الأحاديث عن سياقها وتجريدها عن أسباب ورودها وفصلها عن منطق الإسلام في تحريره للمرأة كجزء من تحريره للإنسان ذكراً أو أنثى.
فالتحرير الإسلامي للمرأة جعلها:

في طليعة المؤمنين كما كانت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، حتى كان عام وفاتها عام حزن دعوة الإسلام، وجعلها في طليعة شهداء الإسلام كما جسدتها سمية بنت خياط أم عمار، وطليعة المشاركات في العمل العام السياسي منه والشوري والفقهي والاجتماعي، بل وحتى القتالي، وكل هذا في مدرسة النبوة.
إلا أن العادات والتقاليد أعادتها وتحاول إعادتها إلى الأسر والأغلال الغريبة عن الروح الإسلامية حتى أصبحت المفاخرة بأعراف ترى: أن المرأة الكريمة لا يليق بها أن تخرج من مخدعها إلا مرتان مرة إلى بيت زوجها ومرة إلى القبر الذي تدفن فيه، وهي عورة من رأسها إلى قدميها، والتشاور معها شؤم يجب اجتنابه، ومخالفة حديثها إذا تحدثت.
ورد في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمرَّ على النساء فقال: ” يا معشر النساء ‏تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم يا رسول الله؟‏ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل ‏الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة ‏مثل نصف شهادة الرجل، قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟‏ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان دينها”.‏

أولاً- هذا النص يحتاج تفسيره إلى معرفة بالمناسبة التي قيل فيها، ومعرفة الصيغة التي صيغ بها حتى نتبين دلالته على معالم شخصية المرأة، فالحديث يخاطب حالة خاصة من النساء ولا يشرع تشريعاً دائماً فهو يتحدث عن واقع، والحديث عن الواقع القابل للتغير والتطور شيء والتشريع للثوابت شيء.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب) رواه البخاري، فهو يصف واقعاً ولا يشرع لتأييد الجهل بالكتابة والحساب لأن القرآن الكريم بدأ بقوله: اقرأ، والرسول صلى الله عليه وسلم قد غير هذا الواقع بتحويل الأميين إلى فقهاء وعلماء وقضاة، وهذا امتثال لأمر الله تعالى الذي بين لنا أن من وظائف القمر أن جعل له منازل ومطالع لتتعلموا عدد السنين والحساب: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} يونس.

ثانياً- إن مناسبة الحديث ترشح ألفاظه وأوصافه ليكون من ورائها المدح وليس الذم، فالنبي صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم وقد زكاه الله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} سورة القلم. الذي يجعل من العيد مناسبة وفرحة يشترك فيها الرجال والنساء والصغار والكبار، لا يجعل هذه المناسبة السعيدة مناسبة للذم والتقريع بالنساء والحكم عليهن بنقصان الأهلية بسبب نقص العقل والدين.
فالحديث يشير إلى غلبة العاطفة والرقة على المرأة، التي تغلب بها المرأة أشد الرجال حزماً وشدة وعقلاً، وإذا كانت غلبة العاطفة إنما تعني تفوقها على الحسابات العقلية المجردة والجامدة، فإننا نكون أمام عملة ذو وجهين تمثلها المرأة، فعند المرأة تغلب العاطفة على العقلانية، وذلك على عكس الرجل الذي تغلب عقلانيته عواطفه، وهذا التمايز يدل على الفطرة الإلهية والحكمة البالغة ليكون عطاء المرأة في ميادين العاطفة بلا حدود، وليكون عطاء الرجل في مجالات العقلانية المجردة مكملاً لما نقص عند المرأة.

فنقص العقل الذي أشار إليه الحديث هو وصف لواقع تتزين به المرأة السوية وتفخر به لأنه يعني غلبة عاطفتها على عقلانيتها المجردة، ولذلك كانت مداعبة صاحب الخلق العظيم الذي أوتي جوامع الكلم للنساء في يوم الفرح والزينة، بأنهن يغلبن بسلاح العاطفة والاستعطاف أهل الحزم والألباب من عقلاء الرجال، ويخترقن بالعواطف الرقيقة أمنع الحصون، فعندما يقول عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)، فهو مدح للعاطفة الرقيقة التي تذهب بحزم ذوي العقول والألباب.. قال الإمام النووي: (أَمَّا اللُّبُّ فَهو العقلُ والمُراد كمالُ العقلِ وقولهُ صلَّى اللَّه عليه وسلم فهذا نقصانُ العقلِ أي علامة نُقصانهِ) أنظر شرح النووي لصحيح مسلم ج2/66.

ويا بؤس المرأة التي حرمت من شرف امتلاك هذا السلاح الذي فطر الله النساء على تقلده والتزين به في هذه الحياة، ويا بؤس أهل الحزم والعقلانية من الرجال الذين حرموا في هذه الحياة من الهزيمة بهذا السلاح.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة ‏مثل نصف شهادة الرجل، قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها.
وهنا لابد من الوقوف قليلاً حيث تثار شبهة أن الإسلام ينتقص من أهلية المرأة، وخصوصاً أن الله قال: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) البقرة 282.

فآية سورة البقرة تتحدث عن الإشهاد الذي يقوم به صاحب الدين للاستيثاق من الحفاظ على دَينِهِ، وليس عن الشهادة التي يعتمد عليها القاضي في حكمه بين المتنازعين..
فينبغي علينا أن نميز بين (الشهادة) و(الإشهاد) الذي تحدثت عنه الآية الكريمة، فالشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف الحقيقة والحكم بالعدل القائم على البينة، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معياراً لصدقها أو كذبها، ومن ثم قبولها أو رفضها، وإنما المعيار هو تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة، بصرف النظر عن جنس الشاهد ذكراً كان أو أنثى، وبصرف النظر عن عدد الشهود، فللقاضي إذا اطمأن ضميره إلى ظهور البينة أن يعتمد شهادة رجلين، أو امرأتين، أو رجل وامرأة، أو رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين، أو رجل واحد، أو امرأة واحدة، ولا أثر للذكورة أو الأنوثة في الشهادة التي يحكم القضاء بناء على ما تقدم من البينات..
إن العقل ملكة من الملكات التي أنعم الله بها على الإنسان، لا يتساوى فيه اثنان رجلاً كان أو امرأة فهم متفاوتون فيه، ويتفاوت زيادة ونقصاً بمرور الزمن، وبما يكتسب من الخبرات والمعارف، وليست هناك جبلة تفرق بين الرجال والنساء في هذا الموضوع.

يقول ابن القيم أيضًا: “والمرأة العدل كالرجل في الصدق والأمانة والديانة، إلا أنها لمّا خيف عليها السهو والنسيان قُويت بمثلها، وذلك قد يجعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله”.
وإذا كان العقل في الإسلام هو مناط التكلف وسببه، فإن المساواة بين النساء والرجال في التكليف والحساب شاهدة على أن التفسيرات المغلوطة لهذه الحديث النبوي؛ هي تفسيرات ناقضة لمنطق الإسلام في المساواة بين النساء والرجال في التكليف، ولو كانت هذه التفسيرات المغلوطة صحيحة لنقصت تكاليف الإسلام للنساء عن تكليفاته للرجال، ولكانت تكليفهن من الصلاة والصيام والزكاة وغيرها على النصف من تكاليف الرجال.

ووصف الحديث لغلبة العاطفة الرقيقة على العقلانية الجامدة عند النساء هو وصف لواقع محمود ولا يمكن أن يكون ذماً للنساء ينتقص من أهلية المرأة ومساواتها للرجال بأي حال من الأحوال، كما أن النقص العقلي هنا ليس هو نقص في خِلقة العقل، إنما هو نقص في النشاط العقلي نتيجة عوامل ذات تأثير على القدرة العقلية كالعوامل الاجتماعية أو النفسية أو نتيجة بعض وظائف الأعضاء مما كتبه الله على بنات آدم هو أمر صالح يعين على تحقيق كل من الرجل والمرأة دوره في الحياة.

وأما نقص الدين قد يُفهم من الوهلة الأولى أن المرأة قليلة دين لا تخشى الله، إلا أن الحديث يصف الواقع المحمود والممدوح، وذلك باختصاصهن برخص في العبادات تزيد على الرخص التي يشاركن فيها الرجال، فالنساء تشارك الرجال في كل الرخص التي رخص الشارع فيها من الإفطار في السفر والمرض، وقصر الصلاة وجمعها… ثم يزدن عن الرجال رخصاً خاصة بالإناث من سقوط فرائض الصلاة والصيام أثناء الحيض والنفاس، وإفطار المرضع عند الحاجة، وإذا كان الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه فإن التزام النساء بهذه الرخص الشرعية هو المطلوب والمحمود، وفيه لهن الأجر والثواب.
فهل يعقل وهل يجوز في أي منطق أن يعهد الإسلام بأهم صناعة وهي صناعة الإنسان ورعاية الأسرة وصياغة مستقبل الأمة إلى ناقصات العقل والدين، بهذا المعنى السلبي، الذي ظلم به غلاة الإسلاميين وغلاة العلمانيين الإسلامَ ورسولَه الكريم الذي حرَّر المرأة تحريره للرجل، عندما بعثه الله بالحياة والإحياء للإنسان، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)} الأنفال.

إنها تفسيرات مغلوطة وساقطة حاول بها أسرى العادات والتقاليد إضفاء الشرعية الدينية على هذه العادات والتقاليد التي لا علاقة لها بالإسلام والتي يبرأ منها هذا الحديث الشريف.
ختاماً فإن “ناقصات العقل والدين” لا تكمل الحياة إلا بهن، ولا تقوم لنا قائمة إلا في حضرتهن، لا ينقصهن شيء، ولا يعيب وجودهن أحداً، هن نهر العطاء الذي لا ينضب، والبذرة التي تُثمر نجاحاً وإنجازاً، ووصفة السر التي صنعت عظماء وأبطالاً، شأنهن عظيم، وقدرهن كبير، ولأن المعادلة الكونية تقتضي أن نكون ذكوراً وإناثاً؛ فلا شك أنهن الشطر الأجمل من المعادلة.

جمع: أحمد عبد المحسن الحجي
منتدى سلطان العلماء

المراجع:
التحرير الإسلامي للمرأة د. محمد عمارة.
المرأة المسلمة وقضايا العصر د. محمد هيثم الخياط.
تحرير المرأة المسلمة في عصر الرسالة لعبد الحليم أبو شقة

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد