قوة الضعف


يكاد الوحي يتفق على حقيقة واحدة: أيها الضعفاء لا تتخطوا حدود النفس إلى فضاء المُحال، أيها الضعفاء ليست الأسباب اليوم في صفِّكم فلا تعولوا عليها كثيرًا، ولكن اعلموا أن الله من وراء كل ضعيف مستضعف علم أن ليس له إلا ربه، ولو أدبر عنه كل نصير، وتولّى عنه كل ظهير.

إن تجاوز الإمكانات المتاحة لتوظيفها في مهام ليست منوطة بها ما هو إلا اختراقٌ لقوانين السنن الكونية، بل والبديهيات العقلية، فإن القوي هو الأقدر على قهر الضعيف في عقل أي عاقل، وسنن الله تعالى لا تحابي أحدًا.
وَضَعَ لنا الوحي مناطاتٍ للتعامل في حالة الضعف وقلة الإمكانيات، ومناطاتٍ لحالة القوة ووفرة الإمكانيات وفيما بين ذلك، وأمرنا بالتجهز بكل قوة ممكنة، لقد كان الله جل شأنه ينزل جنودًا من السماء ليضفي إلى المؤمنين الثقة والقوة والتفاؤل، فلم يضاعف في قوة الرجل من أجل إيمانه فقد خلقه على هيئته، ولكن يعينهم بالملائكة إعانة حقيقية فكانت الملائكة تقاتل وتأسر وتضرب الرؤوس والأعناق، حتى إنهم يعرفون ضربة الملك من ضربة البشر، وفي قصة أسر العباس بن عبد المطلب قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن أسره: “كيف أسرته يا أبا اليسر؟ قال: لقد أعانني عليه رجل ما رأيته بعد، ولا قبل، هيئته كذا، هيئته كذا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملك كريم” – رواه أحمد (3310).

أعانه لأن الضعيف لا يمكن أن يتجاوز حدود قدرته لفعل أمر ليس بمقدوره ، فكان لابد له من مدد وإعانة، لقد كان النصر في بدر ونحوها من الغزوات ليس بإمكانيات المسلمين وحدها، بل بتدبير الله لهم ومددهم لهم بالمعونة والأسباب الحسية والنفسية لا بمغالبة السنة الكونية، فأنزل الملائكة لإضفاء القوة الحسية وجعل المشركين في أعينهم قليلًا، لإضفاء القوة المعنوية، وأنزل الماء من السماء لتهيئة أرض المعركة وإذهاب كيد الشيطان، وإمدادهم بما يطهرهم ويزكي نفوسهم، وغير ذلك مما ذكره الله تعالى من تهيئة أسباب النصر، ولو شاء الله تعالى لنصرهم بدون هذا كله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ولكن قضى الله جل شأنه أن يجعل لنا لكل شيء سببًا.

أكثر المقدِّرين تفاؤلًا لعدد من آمن مع نوح ذكر أنهم ثمانون نفسًا، فهذه الثلة القليلة المؤمنة ليس لهم قوة على المكذبين المعتدين من قوم نوح أن يواجهوهم فضلًا على أن ينتصروا عليهم، لذلك جاء التعبير القرآني الدقيق بأدق ما يكون في قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} (الأنبياء: 77) بما تضمنته كلمة “من” من معاني الحماية والدفاع وكف الأذى، فلم يقل “ونصرناه على القوم” فليس لهم من النصر عليهم من سبيل، لا لأن نصرهم عزيز على الله، بل لأن ذلك مخالف للسنن الكونية والبدهيات العقلية . فحسبك في وقت ضعفك أن يحميك الله من الجبارين ويكف عنك أذاهم، فهذا يُعد نصرًا مؤزرًا لأنه ذروة المتاح.

ويظهر هذا المعنى بجلاء في قوله تعالى: {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَاءَنَا} (غافر: 29) فبأس الله لا مطمع لأحد أن ينتصر عليه فلو قال “فمن ينصرنا على بأس الله” كان نفي الأعلى لا يستلزم نفي الأدنى، ولكن لما قال فمن ينصرنا من بأس الله فقد نَفَى مجرد الحماية والسلامة والجوار من بأس الله فضلًا على الانتصار عليه وقهره الذي لا يرد به احتمال ويتنزه عنه كل مقال. لقد فهم القائد المغوار خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فلسفة الضعف فلم يصارع أسباب القوة، واحتال ليرجع بجيش المسلمين بأقل الخسائر، وأقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تراجعه بالجيش، لأنه لم يسلم رقابه للعدو وفي هذا الذل الحقيقي والاستسلام لسلطة الضعف، خلاف من يظن أن فعله فيه نوع مذلة.

لقد كانت قوى الرومان بالنسبة إلى قوة المسلمين في هذه المعركة وفي هذا العصر عامة، تكاد تكون صفرية، فلم يكن الحل يكمن في إنكار هذه القوة، وإضفاء قوة أسطورية وهمية على جيش المسلمين، بل كان في الانسحاب المؤقت، فإنه وإن كان انسحابًا في الظاهر إلا إنه إعادة تجهيز ومهلة من العمل والتحدي لإحداث التوازن وتحقيق القوة، ثم مواجهة العدو مرة أخرى بقوة متكافئة أو قريبة. وهذا تفسير قول النبي -صلى الله عليه وسلم- “بل هم الكرار” فلم يكتف النبي -صلى الله عليه وسلم- بإقراره على فعله، بل جعل رجوعه لإعادة التأهيل والتنظيم والتسليح هو عين المواجهة.
يقول جوستاف لوبون مؤرخا لتلك الفترة “ولكن العرب كانوا يجهلون فنَّ الحرب جهلًا تامّا، ولا تقوم الشجاعة مقام هذا الفن، وكان اقتتال العرب فيما بينهم من نوع اقتتال البرابرة الذين يَنْقَضُّون على أعدائهم بلا نظام، ولا يحارب كلُّ واحد إلا من أجل نفسه، وكان غيرَ هذا أمرُ الفرس والروم الذين كانت معرفتهم لفنِّ الحرب عظيمةً جدٍّا كما ظهر من اشتباكهم الأول بالعرب، ولم يلبَث العربُ أن عَلِموا من الهزائم التي أصابتهم في سورية ما كان يُعوِزُهم، وأن اقتبسوا من قاهريهم كثيرًا من شؤون الحرب، وأخذوا عمن التحق بهم من الرجال الذين اجتذبهم الإيمان الجديد ما كانوا يجهلون من فنون تعبئة الجيش والنظام وأعتدة الحرب، وقد تم استعدادهم في بضع سنين، وقد بُهِت الروم حين حاصر العرب دمشق، ورأوهم مجهزين بمثل ما كان عندهم من الآلات الحربية الكاملة الجيدة.” حضارة العرب (144).
إن طوام الإحساس بالقوة الزائفة والاستقواء بالوهم لا يأتي عليها حصر، فكم تسبب النفس العنتري من بلايا وفساد وجثث واعتقالات، تسببت فيها لحظات إحساس بقوة زائفة وتمكن زائف، دون أي مراعاة لمآلات الخطاب ولا لوقع الكلمات ولا لتربص الأعداء، الأمر الذي قاد إلى واقع كابوسي جاثومي لم يرد في خيال أكثر الناس تشاؤمًا.

ليس المطلوب الاستكانة أو الاستسلام للضعف، فهذا أبعد شيء عن روح الوحي، لا سيما في المواجهة مع القوى الطاغية، لكن المقصود بيانه أن للضعف أيضًا قوته العظمى، وتكمن قوة الضعف في أن الضعيف هو الأقرب سببًا إلى ربه كما دلت على ذلك محكمات الوحي.
لحظات الضعف التي مر بها الأنبياء والصالحون لم يكن لهم إلا الطرق على باب القوي المتين، فهذا مشهد الضعف أمام النفس قال فيه الصديق يوسف: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} (يوسف: 33) وهذا مشهد الضعف أمام الآخر قالت فيه مريم العذراء: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ} (مريم: 18)، وهذا مشهد الضعف أمام المرض قال فيه العبد الصابر: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأنبياء: 83) وغيرها من مواقف الالتجاء العظيمة.

إن الاستضعاف ليس له إلا باب واحد، هو الحصن الحصين والركن الشديد، وهو مفتاح النصر والتأييد والإيواء والرزق والأمن، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26)

بقلم: عمر أبو شادي

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد