الخطاب الديني بين العقل والعاطفة


عند الاكتفاء بالخطاب العاطفي يكون خطاب البناء قد توقف عند أول الطريق فالبناء العاطفي يُحفزك ويدفعك للفعل لكنه بحاجة أن يُسلِّم مهمة الوعي إلى مرحلة أخرى هي الأهم والأخطر، وهي مرحلة البناء المعرفي الحقيقي التي يقوم بها الخطاب العقلي، فوظيفة الخطاب العاطفي التحفيز والتهيئة لاستقبال الخطاب العقلي الذي يُعلِّمك الطريق ويرسم لك خطوات الأفعال فهو خطاب تفسيري وتوضيحي وتعليلي بالدرجة الأولى يبين طُرق ووسائل الوقاية ويُذكِّر بالعواقب والنتائج كما يجيب على تساؤلات الشخص وإشكالاته العقلية ويطرح الأُطر العملية ووسائل البناء والارتقاء رغبة في الوصول إلى تحقيق الهدف من أي موقف لبناء الوعي الكامل ليتحول إلى معرفة وعلم.

ومن هنا يتبين أن الخطاب العاطفي ليس خطاب بناء ومعرفة بذاته بل خطاب تأثير وتنبيه يفتح الطريق لخطاب البناء والمعرفة الذي يقوم به خطاب العقل وعندما يتفرَّد الخطاب العاطفي في البناء التربوي والمعرفي يصبح المتلقين في دائرة انفعالية دائمة لا تعرف النهاية.

فمن سمات الخطاب العاطفي أنه خطاب انفعالي يستيقظ عند وجود المؤثِّرات والمنبِّهات التي تحمل في طياتها صورة نمطية في وجدان المتلقي وبمجرد غياب هذه المنبهات والمؤثرات تضعف وتضمحل وتحتاج إلى مؤثر جديد أو إعادة السبب لتعود إلى الانفعال ولذلك يحتاج الخطاب العاطفي إلى تكرار الرمزيَّة والمواقف المثيرة بشكل دائم، وهذا ما أرشد إليه القرآن في قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} فالذكرى تنبيه وتحفيز يزول ويضعف بزوال المؤثر لذلك لزم تكرارها بشكل دائم، وليست الذكرى عملا بذاتها فوراء الذكرى عمل وأخلاق وسلوكيات تحتاج خطابا مستقلا يبين تفاصيلها ويشرح معانيها وكيفياتها ويبين مقاصدها.

يعدُّ الخطاب العاطفي خطابا مُريحا للنفس لخلوه من الأعباء والتكاليف العمليَّة وهذا يفسِّر الانجذاب الكبير له على عكس الخطاب العقلي الذي يشعر معه الإنسان بالثقل لكونه يحتوي على الأوامر والتكاليف والأعباء العملية والسلوكية التي تؤسس البناء المعرفي والعملي للإنسان والنفس بطبيعتها تستريح وتميل إلى خطاب العاطفة أكثر لهذا السبب وهذا من أسباب الإغراق في هذا الخطاب.

فعندما تُشحن الامة بخطاب العاطفة المجرد الى حد التضخم يضعف فيها خطاب العقل إلى حد التُهمة هنا ترتفع نسبة الانفعال ويضعف فيها خطاب التوجيه فتحدث الكوارث الفكرية والسلوكية الكثيرة وكأن الخطاب العقلي لجام يكبح العاطفة اللاواعية و يحفظها من التمادي ويرسم لها طريق الذي ترتقي به روحيا وعقليا وهذا هو البناء الحقيقي للإنسان.

الإنسان ليس عاطفة فحسب بل حياته متعلقة بنعمة العقل الذي يجعله يدرك الخير والشر والصحيح والسقيم واساس تعاملاته يقوم على هذا الميزان العدل بين العاطفة والعقل واعطاء كل خطاب مكانته وموضعه واهميته فالإغراق في خطاب العاطفة يولد خطابا مندفعا فاقدا للواعي بتبعات الافعال والسلوكيات ومآلاتها والإغراق في خطاب العقل يولد وعيا جافا مغرقا بالتكاليف والاعباء مُنفِّرا للنفوس.

منهج التوازن هو المنهج الذي سار عليه الخطاب القرآني فالله يقول ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فوضع الشيء في موضعه الصحيح هو الحكمة وهو خطاب العقل ولن تجد قبولا وترحيبا بها حتى يأتي خطاب العاطفة ممثلا بالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وهذا في الوضع الطبيعي عند تقديم الخطاب العام. أما في وضع العلاج للانحراف فيُغلَّب خطاب دون آخر ليتم تدارك الانحراف الذي وقع في بُنية الخطاب الواعي المتوازن.

إن المتتبع لواقع الخطاب اليوم بكل أشكاله وأنواعه المقروء والمسموع والمرئي يراه يغرق في الخطاب العاطفي الوجداني كنوع من ردة الفعل لواقع الصراع وتأزم الواقع وهذا الواقع يضعف أو يتجاهل معه الخطاب العقلي وهذا انعكس بدوره على إنتاج المعرفة لدى النخبة المثقفة في المجتمع لضعف الثراء الذي يولده التساؤل والاستشكال والبحث المعرفي وهذا بدوره ينتج وعيا زائفا عاجزا عن مواجهة واقع الحياة العملية وتساؤلاتها المعرفية المُلحَّة.
ففي ظل أجواء الانفتاح التي تفرض نفسها على ثقافة أي مجتمع فأنت لا تعيش ولا تفكر وحدك والأمة اليوم بحاجة أن يُبنى عقلها ليبنى وعيها ليستطيع مواجهة الكم الهائل من المعارف والتعرف على الصحيح والسقيم منها بدلا من تخديرها بخطاب عاطفي مجرد تفر منه من ويلات المواجهة.

إن تبعات هذا الاختلال في التوازن في بنية الخطاب التوجيهي أفرز العديد من الاختلالات لها تبعات كبيرة على بناء وعي المجتمع، فالإغراق في خطاب العاطفة جعل ثقافة الجماهير تميل مع صوت العاطفة الأقوى لا صوت الحكمة والعقل..
وهنا أصبح من السهولة بمكان تحريك الجماهير لتكون سلاحا مدمرا بيد من يثير عاطفتها أكثر، ولقد تسبب الإغراق في الخطاب الديني العاطفي إلى عزل العقل عن نتائج التصرفات أمام القضايا الكبرى والمصيرية، وما التطرف والتشدد والتعصب والطائفية إلا حصاد لغلبة العاطفة وغياب العقل.

بقلم: صخر الغزالي

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد