المنحرفون يُهاجمون الحقائقَ الدينيَّة


1 – يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلامُ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، هكذا تنبَّأ النبي صلى الله عليه وسلم بما يؤول إليه أمر الإسلام، لا بين الذين يحاربونه من أعدائه، بل بين أهله وذويه والذين يتكلَّمون به، ويدعونه ديناً لهم، ويحسبون أنَّ سيماهم الإسلام، وما هم منه في شيء؟ ومثل الإسلام في ذلك كمثل رجلٍ غابَ عن أهله وذويه، ثم عاد إليهم فنكروه ولم يقبلوه، ولم يَعْترفوا بنسبته إليهم، وبنسبتهم إليه، وهو أبوهم الذي به يَعْتزُّون وبه يفخرون ويباهون!.

ولقد تعرَّض الإسلام لهذه الفرية في أعصار من التاريخ مختلفة، فاستسلم أهله للهوان في عصور سابقة وحاضرة، ورضوا بالذل، واستكانوا وضَعُفوا، ونسوا أنَّ الإسلامَ عزيز، لا يَعيش في ظله إلا الأعزاء، ولا يحمل اسمَه بحقٍّ إلا الأقوياء، وجمد ناس عن إدراك معانيه ومراميه، وحسبوا أنَّ الإسلام أقوال في كتب، وأضفَوا على تلك الأقوال معاني قدسية، ولو خالف بعضها صحيح السنة، وبعض نصوص الكتاب! وأبَوا أن يعودوا إلى الإسلام وهو غضُّ الإهاب، واضح الجوهر، بيِّن الحقيقة!

وتعرَّض الإسلام للغربة عندما تواكل أهله، ولم يعملوا في الأرض، ويمشوا في مناكبها، ويستخرجوا معادنها وفلزَّاتها، ومخزون كنوزها، وتركوا أسباب القوَّة لغيرهم، ومكنوا لهم في الأرض!

وتعرَّض الإسلام للغربة عندما كان ملوك المسلمين يستعينون بأعداء الإسلام على إخوانهم ولم يعلموا أنَّ (المسلم أخو المسلم، لا يخذله ولا يسلمه، وأنَّ كلَّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، واتخذوا من أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم أولياءَ يوالونهم، وبطانة يعلمون أسرارهم، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)}[آل عمران].

2 – هذا بعض أمر المسلمين في هَجْرِهم دينَهم الذي ارتضَوا، وإهمالهم أحكام قرآنهم وهو يتلى عليهم، وقبولهم لكل دواعي الخذلان والهوان، والتقاطع والتدابر، وضرب بعضهم بعضاً!! ولكن كتاب الله تعالى قائم بينهم يهدي الساري في دجنة الظلام، ويبين معالم الطريق لمن أراد السلوك، ولذلك لم يستضر الإسلام بما فعل المسلمون، ولكن الضرر نزل بالمسلمين فالهداية قائمة، ولكن تنكَّبوا طريقها، ولم يسلكوا سبيلها، ولم يستضيئوا بنورها! فكانوا في الأذلين، وقد كانوا الأعزَّة غير المغلوبين.

ولم يرتضِ ذلك أعداء الإسلام، فهم بهذا لم يَستطيعوا نقض أحكام القرآن، وإن مكَّنهم المسلمون من إذلالهم ولم يلبِّسُوا على الناس فرائضه، وإذا كانوا قد عجزوا عن إخفائه من الوجود، لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فم يبقَ إلا أن يسلطوا المشككين على معانيه؛ لأنَّ فساد التأويل لا يقلُّ خطراً عن تحريف القول عن مواضعه، ولذلك دفعوا الذين استهوتهم الشياطين في الأرض يدعون إلى التأويلات الفاسدة، وقد تعرَّض الإسلام منذ ابتدأ هذا القرن لهذه الحملات الهادمة لمعانيه، المشوِّهة لمأثور السنة ونصوص الكتاب!

فقد وجدنا القاديانيين في الهند يفسرون القرآن الكريم بغير معانيه، ويدَّعون لواحد منهم النبوة، وأنَّ له الحق في أن يغير وينسخ من القرآن والسنة! ووجدناهم يدَّعون أنَّ الجهاد انتهى مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الجهادُ ماضٍ إلى يوم القيامة)، ووجدنا منهم من يستبيحون الربا باسم أنَّ الفائدة لا تدخل في عمومه، ووجدناهم يقولون: إنَّ اليهود والنصارى القائمين اليوم هم الذين شهد لهم القرآن بصحَّة دينهم! ويضربون عرض الحائط بقول الله تعالى فيهم: {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13]. وقوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13]، وقوله سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة:73]، وقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ} [البيِّنة:1]!!

وهكذا يضربون بعض الكتاب ببعضه، ويجعلونه عِضِين، ويعتبرون الحكومة التي تسيطر عليهم من النصارى هي الحكومة التي دعا الإسلام إلى طاعتها، واعتبروا الخروج عليها بغياً! ومن مجموع هذه الآراء التي يرونها يتبين عن أي مصدر يصدرون، وإلى أي وِرْد ينتهون؟

ولقد امتدَّ شرُّ هؤلاء من الهند إلى كل البلاد الإسلامية، مع أنهم أقل الطوائف التي تدعي الإسلام عدداً، ولكن إرادة إفساد معاني الإسلام هي مقصد الذين يدفعونهم ويحركونهم من غير المسلمين! ولقد عجزوا عن إخفاء كتاب الله تعالى عنهم، فلم يبقَ إلا أن يعملوا على إفساد مَعَانيه!

3 – ولكن القرآن الكريم له مُفسِّر وهو السنة، وهي من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، وما بقيت هذه السنَّة مفسِّرةً للكتاب فسهامهم طائشة، مهما راشوها وسمَّموها؛ لأنَّ السنة هي المرجع الذي يُرجع إليه لردِّ تحريفهم للمعاني وإفسادهم للتأويل وعبثهم بأحكام التنزيل.

ولذلك اتجهوا من بعد ذلك إلى السنة نفسها، يقوضون دعائهما، فوجدنا في الهند طائفة تنكر أن تكون السنة مفسِّرة للقرآن، وتقول: إنَّه لا يصحُّ أخذ معاني القرآن من السنة، بل تؤخذ من مجرد الفهم، وألَّفوا في ذلك جماعات تسمى جماعات القرآن، تقصد أن تقتصر في تعرف الأحكام على القرآن!، وقد التقينا بمتكلمين عن هذه الجماعة، وعجبنا من انحرافهم وتضليلهم، وزاد عجبنا من أنَّ الذين التقينا بهم لا يعرفون حرفاً عربياً واحداً!

ولعلهم لا يحفظون فاتحةَ الكتاب، لأنهم لا يحتاجون إليها لتصحيح صلاتهم، إذ هم لا يصلون صلاة المسلمين، ويأخذون تفسير القرآن الكريم من التراجم الشائهة، التي يعتمدون عليها! ولا شك أنَّه إذا سُلكت طريقتُهم غير المثلى، فستعتمد الأمم غير العربية على تلك التراجم، وبذلك يدخل تحريف القرآن من هذا الباب! ولكن دون ذلك عرق لحومهم، والله من ورائهم محيط.

ولقد امتدَّ فعل هؤلاء إلى مصر، فتكونت جماعةٌ حملت كِبْرَ هذا الإثم، وأنكرت الصلوات الخمس المفروضة، وزعمت أنَّ الصلاة فقط ركعتان في اليوم والليلة؟ وكان يرأس هذه الجماعة وكيل وزارة مصرية، وألَّف في مذهبه أكثر من عشرة كتب، ولا يعلم إلا الله تعالى من أين كانت مواردها، وقد كان يوزِّعُها بالمجان!

وقد رحمَ الله المسلمين فكفاهم أمرَه، وأهلكه! وإنَّه الآن يذوق وبالَ أمره في جهنم وبئس المصير، وقد تفرَّقت جماعته، ولعلهم يفكرون فيمن يخوض في إثمه، ويسير في سيره، والله غالب على أمرهم! والعجب العجاب أنَّ كثيرين يقفون موقف النَّظَارة كأنَّ الأمر لا يَعنيهم، ولا يَهمُّهم، وهم يرون كيف يعمل غير المسلمين على حماية دينهم، ولا نجد أحداً في الديار العربية يهاجم غير الإسلام! ولا يجري التعابث في حقائق دين، كما يجري التعابث بالحقائق الإسلاميَّة من أولئك الذين اتخذوا دين الله هزواً ولعباً!

4 – وفي الوقت الذي وجد فيه ذلك الأمر المنكر، وهو الاستغناء عن السنة في تفسير الكتاب وفَهم مَعَانيه ومَراميه، كان هناك من يَهدم الحقائق الإسلاميَّة والمعاني القرآنية من طريق آخر، فوُجد كُتَّابٌ قد اتصلوا بالإنجيليين من النصارى وغيرهم، وأخذوا يَهدمون السنَّةَ ذاتَها، فإنَّ السنَّة مدوَّنة في صحاح، درس العلماء طريق روايتها، ومحَّصُوها، وبحثوها، وتعرَّفوا سلامة إسنادها، وفحصوها رواية ودراية، واستقرَّ الناس على صدق ما اشتملت عليه، وإنَّ إشراق النبوة ليشعُّ من بين سطورها.

ولكن لكي يتعاون الفريقان: الأولون يدعون إلى الاستغناء عن السنة، والآخرون يريدون أن يذهبوا بالسنة ليسهلوا على الأولين طريقهم، فجاءوها وأنكروا صحَّة تلك الكتب الجامعة من البخاري ومسلم والسنن والمسانيد كلها، بدعوى أنَّ الرواة غير صادقين! وأخذوا يطعنون في كبار الصحابة الذين قاموا برواية السنة قولاً وعملاً، واختصُّوا من بين الصحابة بالطعن من أكثروا من الرواية بما جادت به قرائحهم الكليلة، وعقيدتهم السقيمة، ودوَّنوا في ذلك الكتب، وأيَّدهم من لا حريجة للدين في قلبه، مع أنهم هدامون، لا يريدون الإصلاح أو التقويم، ولكن يريدون الهدم، فإنه إذا هدمت الصحاح وصل أخيراً الآثمون منهم إلى ما يريدون من أيسر الطريق.

وكل غاياتهم هدم شريعة القرآن، وإبعاد حقائقه، ويكون مصير كِتَابِنا كمصير الكتب السابقة، إن لم يكن من حيث تواتره والاستحفاظ عليه، فإنَّه يكون من طريق إفساد معانيه، والعبث بأحكامه! ولكن الله الذي وعدنا بحفظ كتابه سيحفظه في مبناه ومعناه، وإنَّه إن لم تزل غربة الإسلام، فلن تذهب حقائق القرآن، وستظلُّ داعية إلى الهدى تجد من يأخذ بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي).

5 – ولقد وجدنا الحقائق الإسلاميَّة تُهاجَم مهاجمة عَارية مكشوفة، عندما جاء كاتب في الصحيفة التي دأبت على مُهاجمة الإسلام، كما أشرنا من قبل، يقرِّرُ أمراً غريباً، وهو أنَّ الشريعة الإسلاميَّة قابلة للتطوير، لأنَّ القرآن الكريم قد جاء فيه قول الله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}[الرعد:38]، ويقول إنَّه يفسرها بأنَّ المعنى: لكل زمان شريعة (1)!

وقد يكون تفسيره صحيحاً من حيث معناه، ولكنه باطل من حيث ما يريد من مُؤدَّاه، لأنَّه يعتبر المؤدى أنَّ كل زمان من الأزمنة، بعد الإسلام له شريعة تناسبه، وأحكام توائمه، وبذلك تنسخ شريعة القرآن باسم القرآن، وتبدَّل الأحكام باسمه! ويُلغى ما جاء فيه باسم الفهم السقيم والتفكير العقيم!

ولا ندري ما الحكم الذي يتخذونه للفصل بين زمن وزمن! وأنَّ هذه الأحكام تصلح لذلك الزمان دون هذا الزمان؟ أهو النظم القائمة في العصر الحاضر؟ ثم أهي النظم الفرنسية، أم الإنجليزية، أم الأمريكية، أم النظم السوفييتية؟ وإلى أي طريق يسوقنا هؤلاء؟!

عيِّنوا لنا الشريعة التي يَقتضيها (التطور) الذي تدعون إليه، وإذا اخترتم النظام السوفييتي دون غيره، فلماذا كان الاختيار، ولماذا اعتبرتموه وحدَه مُقتضى ( التطور) دون سواه؟ وإذا لم يكن النظام الذي ارتضيتموه واحداً من هؤلاء، فما الذي تختارونه؟ وما المقاييس التي وضعتموها للاختيار حتى يكون بسلطان مبين، وحجة بيِّنة، ونسير وراءَكم على محجَّة واضحة؟

قولوا لنا ما الذي ترونه شَريعة بدل شريعة القرآن، الذي نراه نحن شريعة الديَّان قولوا لنا: ما الذي اقتضاه التطوُّر لنتَّبعه؟ إن كانت الصناعات التي امتاز بها العصر الحاضر تقتضي تغيير شريعة القرآن التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فما وجه ذلك وما الباعث على التغيير والمناقضة؟

وإن كانت الأحداث الاجتماعيَّة تقتضي التغيير، فقولوا لنا: ما وجه المغايرة! وما الباعث الذي يجعلنا نهجر القرآن ونهجر معه أحكام ديننا؟ وهل هذه الأحداث مُناقضة له ولا يمكن الجمع بينهما، على أن يكون التوفيق على أساس من النصوص المحكمة التي نؤمن بها؟! وإذا كان التناقض كاملاً لا يمكن التوفيق فيه، فما الدليل على أنَّ ما اخترتموه أهدى سبيلاً، وأقوم طريقاً، وأدنى إلى العقل والحق؟

إنني أومن بأنَّ هؤلاء ليس في رؤوسهم نظام مُتميز قد عَرفوا وجهَ الحق فيه مجتهدين مُتحررين من كل تقليد، ولكنهم يحاكون مَذهباً من المذاهب الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لا يرون الحق في غيره، ومَثَلُهم كمثل الذين كان يخاطبهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم من المشركين الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة:170]!.

وهؤلاء إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبعُ ما ألفينا عليه روسيا إن كانوا شيوعيين! أو ألفينا عليه أمريكا إن كانوا يُنادون بسلطان الأمريكيين! أو ألفينا عليه إنجلترا، كانوا من أنصار المسيطرين في الماضي الذين لا تزال فيهم بقية من الخضوع لهم!

فإنَّه إذا كان الاستعمار قد زال من الأرض، فإنه لا يزال مُستقراً في نفوسهم، إذ قد استمكن فيها، ولم يُبقِ موضعاً لغيره! فإذا كانت الأرض قد عمرت بعد خروجه، فرؤوس هؤلاء لا تزال محتلَّة به! ولا مُنقذ إلا الله تعالى، فهو الذي ينقذهم من الضلال، أو ينقذنا منهم.

ويسوغ لنا أن نقول إن كلام القاديانية إخوانهم في الباطل أكثر اتساقاً مع بطلانه من كلامهم، لأنهم عندما ادَّعوا جواز تغيير بعض الأحكام، لم يقولوا إنَّ الشريعة كلها يجوز تغييرها، بل قالوا تفسر أو تنسخ بعض أحكامها، ولم يقولوا إنهم يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم، بل قالوا: إنَّ ذلك من عمل من ادَّعوا نبوَّته! فباطلهم متسق الأجزاء، وإن كان دعاوى باطلة تبنى على مثلها!

ولعل سائلاً يسأل: لماذا لم يقولوا مقالتهم؟ ونجيب عن ذلك بأنَّ أكثرهم يهدمون الأديان جملةً وتفصيلا، فلا يؤمنون برسالة رسول، والذين يَدينون منهم بدين ينطبق عليهم قول الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} [الحج:11].

أيها الناس: سيروا في مذاهبكم، وأوغلوا فيها كما تشاءون، وليس لنا قوة تمنعكم! كونوا فرنسيين قد ارتضيتم انحلال فرنسا، وإن كنا نعرف أنكم في أسركم لا ترضَون هذا، أو على الأقل لا يرضاه من نعرفهم منكم معرفة قد ارتبطنا فيها بودٍّ وقتاً ما، أو كونوا شيوعيين إن أحببتم، وإن كنا نعرف أنَّ منكم من يرفَهُ في نعيم، ويعيش عيشاً رافغاً! أو كونوا أمريكيين ينادون بحضارة أمريكا المضطربة، ويقرون ما فيها من إهانة لكرامة الإنسان! كونوا كما تشاؤون ولكن الأمر الذي نطلبه إليكم ألا تتعرَّضوا للإسلام، اختاروا لأنفسكم ما ترون، واتركونا قد اخترنا الإسلام، لأنَّه هو الذي ارتضاه لنا ربنا.

نقول لكم ما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
إنَّكم إن فعلتم ذلك لا يمسُّكم أحد، وإن كانت الأخرى فأنتم تريدون الفتنة وتبتغونها، وذلك ما لا يرضى به عاقل أو وطني!!
وعلى أي حال نحن ندعو لكم بالهداية ونقول مقالة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفرْ لقومي فإنَّهم لا يعلمون).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

بقلم: العلامة محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى

المصدر: (مجلة لواء الإسلام)، العدد (الحادي عشر)، السنة (الخامسة عشرة)، رجب 1381هـ الموافق ديسمبر 1961
************
هوامش:
(1) إنَّ التفسير الصحيح لمعنى: (لكل زمان شريعة) أي: لكل زمان من أزمان النبوات شريعة، فلكل نبي شريعة كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة:48]، مع بقاء أصل التوحيد، وشريعة موسى وعيسى تنتهي بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا ما ينص على بقائه منها.

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد