هل نحن أعلم من السلف؟


((نحن أعلم من السلف. والسبب في ذلك أن العلم تراكميّ. فكل متأخر يحيط بما عند المتقدم من العلم، ويضيف عليه المزيد. ونحن نرى هذا بوضوح في العلوم الطبيعية، كالفيزياء والكيمياء، كيف يضاف إلى بناء العلم باستمرار، والعلوم القديمة تبدو في كثير من الأحيان مثيرة للضحك بالنسبة للتطور في العلم، بفعل التراكم)).

هذه مجمل الدعاوى المتعلقة بأفضلية علم الخلف عن السلف، والتي يثيرها في الغالب أوهام بعض الجهلة من مدعي التنوير والتجديد، أو بعض الهدميين من القرآنيين والعدميين والتاريخانيين وغيرهم. والتي يسوّغون لأنفسهم بناء عليها: هدم ثوابت الدين، والقطعي منه، والمعلوم بالضرورة.

وفي تلك المقالة سنتعرض بالتفكيك لتلك الدعوى بصورة مجملة، ومتداخلة، ولكنها تفي ببيان المغالطات التي تقوم عليها تلك الدعوى.

الإشكال الذي نتجت عنه هذه الدعوى الجاهلة هو أن أصحابها يتصورون العلم الديني تصورًا نظريًّا تافهًا، أو يقيسونه بالعلوم التجريبية. وهذا جهل آخر مركب.

فالعلم الديني ليس شيئًا مجردًا نظريًّا، يقوم على مجموعة من المعلومات والبيانات، والإجراءات المنهجية بمثابة المعادلات. بل هو مرتبط بنص مقدس، وبطبيعة معينة له، وفهم لملابساته، وطرائقه في البيان، ومقاصده العامة، وكيفية تمثله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهذا جميعه يحتاج أنواعًا من البحث والفحص والتدبر، ليست قاصرة على مجرد الشُّغل العلمي بالمعنى الفني المجرد. وقد أشرت إلى ذلك في مقال لي سابق.

وهنا يختلف الدين عن العلوم التجريبية بصورة جذرية. فالعلوم التجريبية متجددة بطبيعتها. سواء قلنا إنها اتصالية متراكمة، أو أنها يغلب عليها التصور الانفصالي الهدمي، وهذا هو الأدق، فالعلم التجريبي قائم على القطيعة المعرفية والاستئناف، فكل اكتشاف جديد يؤثر تأثيرًا موضوعيًّا وماديًّا على بنية العلم، يجعل النظريات السابقة محل نظر، بل قد يجعل حقائق علمية برمتها مجرد خرافات. والسبب في ذلك أن العلم التجريبي يستمد معارفه من ظواهر وموضوعات متجددة.

وهذا خلاف بنيوي ومبدأي بين العلم الديني والعلم التجريبي. فليس في العلم الديني اكتشافات! ولا هو مستمد من ظواهر متجددة، بل هو مقتبس ودائر ومبتدئ ومنتهٍ من نص ديني مقدس ثابت، تدور حوله معارف قطعية ضرورية، وأخرى اجتهادات ظنية، والنوعان محكومان بطرائق البيان العربي، وقواعد الفهم والمقاصد، والتطبيق النبوي والصحابي. ومهما يكن من شيء: فلا جديد في المعطيات الدينية، فلا وحي بعد الوحي، ولا نبي بعد النبي. والنوازل والمستجدات وملابسات الزمان والمكان والأشخاص = جميعها ترجع أحكامها إلى الاجتهاد من خلال النص الديني وما حوله من آراء مستمدة منه.

وقد يقال: إن المذكور من التقدم العلمي الطبيعي، ومفارقته الجوهرية مع العلم الديني صحيح. ولكن يمكن القول بتطور العلم الديني بناء على فعل التراكم، بما يعني أن تراكم المعارف الدينية القديمة لدينا: يرشحنا لأن نطور علومًا دينية أقوى وأدق.

وهذه الفرضية تكون سليمة إذا افترضنا أن العلم الديني يتقدم، وهذا خطأ محض مخالف للواقع الذي يقول إن العلم الديني يتأخر.

وسبب تأخر العلم الديني مع الزمن يرجع إلى عاملين:

الأول: المعطيات: فإن المعطيات العلمية التي تبنى عليها المعارف الدينية تتأخر في الغالب، لأنها قائمة على أساسين: الثبوت، والتفسير.

أما الثبوت؛ قد فات كثير منه بنهاية عصر الإسناد، فكثير مما هو ثابت في الزمن الأول لم يصلنا إلا بإسناد ضعيف أو منقطع، بينما كان ثابتًا في العصر الأول، وهذا يؤثر في بناء الأحكام بل في مجرد المعرفة بها.

ونفس الصحيح الثابت عندنا، ليس تحققنا منه كتحقق غيرنا ممن مضى، فبعض الثابت الضروري عند المحدثين قد نجهله بالكلية، وقد يكون عندنا محتملًا. وبعض القوي عندنا بحسب الظاهر، هو مطَّرح غير معتبر عند المتقدمين. وهذا كله معروف لمن مارس العلم.

وأما التفسير؛ مبني على العلم بالعربية، علمًا واسعًا ليس مقتصرًا على بعض القواعد النحوية والصرفية والإلمام بالمتن المعجمي وبعض هرمنيوطيقا البلاغة أو الحجاج المنطقي، بل المعرفة بطرائق البيان العربي الذي هو لسان الرسول والصحابة، بملابساته الخطابية والوجدانية والبيئية والمعرفية. فضلًا عن العلم بأسباب النزول والوقائع ونحو ذلك. وهذا كله يقلُّ العلم به، والمدوَّن منه ليس أكثره.

والثاني: الظروف: وهو أن الطبيعة العلمية سابقا كانت أفضل، من جهة توفر المشيخة المؤهلة علميًّا، والتفرغ العلمي الاقتصادي عن طريق الأوقاف والمدارس. وهذا كله الآن يكاد يضمحل، فلا التفرغ حاصل للأغلب، ولا كفاية من المشايخ الأكفاء. والدرس الديني المعاصر يعاني قصورًا حادًّا من جهة الكفاية العلميّة، ومن جهة التنظيم الإداري، في صورتيه الحرة المشيخية التقليدية، والأكاديمية المتخصصة التائهة بين بيداغوغيا التعليم الحداثي بقيوده الشكلية إجرائيا والتي لا تعود عليه بفائدة حقيقية، وبين تخصصه الديني التقليدي ومستواه الضحل فيه، فلا هو أدرك فوائد الأول ولا عمق الثاني. وإذا انخفض مستوى المجتمع العلمي فإن تأثيره السلبي يتعدى مجرد انخفاض كفاءة الكوادر الناتجة عنه. ولكنه يهبط بمستوى العلم نفسه، فيحارب الفائقين، ويهبط بمستوى التداول العلمي في المجتمع العلمي، والذي هو عامل أساس في تجويد العلوم وتطويرها

وهذا الذي نذكره كله من تخلف العلم الديني عند الخلف عنه عند السلف: هذا كله لا يمنع إمكان أن يتفوق متأخر على متقدم، ولكن لا أن يتفوق جملة المتأخرين على جملة المتقدمين، فإن هذا متعذر للأسباب التاريخية والموضوعية التي ذكرنا بعضها فوق.

وقد ذكر غير واحد من الأصوليين أن آلة الاجتهاد متيسرة للمتأخرين أكثر من المتقدمين لولا قعود الهمم، وعلى ما في ذلك الكلام عندي من نظر قويّ، إلا أن نفس الإمكان حاصل، ولكن بمزيد من الاجتهاد، وبالتوفيق الإلهي، ولكن ليس هو بمستحيل ولا متعذر، وأيضا ليس مبناه على التراكم العلمي المذكور بصورة نظرية جافة، كتلك الدعوى التي كشفناها.

قال محمد بن عبد السلام الهواري التونسي – مالكي مات في القرن الثامن! -: (موارد الاجتهاد في زماننا أيسر منها في زمن المتقدمين، لو أراد الله بنا الهداية)، وقال ابن حمدان الحنبلي – متوفي في القرن السابع! -: (وَمن زمن طَوِيل عدم الْمُجْتَهد الْمُطلق مَعَ أَنه الْآن أيسر مِنْهُ فِي الزَّمن الأول لِأَن الحَدِيث وَالْفِقْه قد دونا وَكَذَا مَا يتَعَلَّق بِالِاجْتِهَادِ من الْآيَات والْآثَار وأصول الْفِقْه والعربية وَغير ذَلِك، لَكِن الهمم قَاصِرَة والرغبات فاترة ونار الْجد والحذر خامدة؛ اكْتِفَاء بالتقليد، واستعفاء من التَّعَب الوكيد، وهربا من الأثقال وأربا فِي تمشية الْحَال وبلوغ الآمال وَلَو بِأَقَلّ الْأَعْمَال وَهُوَ فرض كِفَايَة قد أهملوه وملوه وَلم يعقلوه ليفعلوه).

والذي أقوله: إن الاجتهاد في نفسه من جهة الملكة: ليس هو بالمتيسر للمتأخر بالنسبة للمتقدمين، إلا في الشيء النادر الفرد بعد الفرد، لا في الجملة الكثيرة، ولكنه متيسر من جهة الموارد والآلات، وليس ذلك على عمومه أيضًا، كما أبدينا في ملاحظة المعطيات في كلامنا عن تأخر العلم الديني، ولكن من جهة ترتيب المصادر والتدوين، فقد كان يتصور أن يفوت بعض المتقدمين أشياء وهي مدونة الآن، والأهم أنها مرتبة مهذبة عليها مناقشات  وتحريرات، فليس ثمة مجتهد يبدأ الآن من الصفر، فيرتب مسائل العلم لأول وهلة، ويضع كتبها، ويجمع شتيتها، كما فعل العلماء في القرون الخالية، وفي هذا فائدة عظيمة، توفر أعمارًا جسيمة.

فنحن ندعو للاجتهاد الراشد المسؤول، وللاستفادة الحقة من تراكم العلوم، بتحريرها، وتطويرها، وتنقيحها، والإفادة منها، والبناء عليها، ولكن من ذوي الأهلية، ما داموا لا يكشفون الثوابت، ولا ينقضون الأصول المحفوظة؛ فهذا مستحيل موضوعيًّا بالنظر إلى ما ذكرناه سابقًا من الطبيعة الاتصالية للعلوم الدينية والفرق بينها وبين العلوم التجريبية الهدمية. لا كما يدعو أصحاب دعوى التراكم والتطور، من الجهلة المدعين.

وأختم هنا بنقل جميل، قاله الشيخ المحدث الشهير ناصر الدين الألباني، قبيل وفاته، وقد طعن في السن، وفنى عمره في العلم، وخلص إلى هذه النتيجة، بكثرة الممارسة والعمل. فيقول:

((نحن الآن طلاب علم، كما تعلمون مما يعاب علينا أنه ليس لنا شيوخ، وهذه حقيقة واقعة ، لكننا مع ذلك أحسن من غيرنا، لأننا عرفنا أنه لا شيوخ لنا، وبالتالي لا علم عندنا ، فنحاول أن نستدرك هذا النقص بجهدنا الخاص .

فأين مثلي وابن تيمية؟ ابن تيمية عاش في مجتمع علمي كما قلنا، واتصل بعشرات المشايخ، وحضر دروسهم. فما مثلي ومثل ابن تيمية كمثل ذلك العربي الأندلسي – عباس بن فرناس -، الذي حاول أن يخترع الطائرة، كيف كان مصيره الهلاك والموت. لماذا؟ لأنه أول من حاول أن يخترع الطائرة، لكن الآن هذه الطائرة صارت شيء بدهي، وكل يوم يتفننوا فيها بفنون كثيرة جدا وكثيرة جدا .فالذي يريد أن يصنع الطائرة الآن هو ليس كالعباس ذاك، هذا مستفيد من التمارين ومن التجارب والأساتذة والمعلمين الذين درس على أيديهم. هذا مثل ابن تيمية، ومثل العباس، فيَّ أنا .لو عشنا نحن كما عاش ابن تيمية ربما كنا صرنا علماء في كل علم، وفي كل فن .

ابن تيمية كان له عشرات المشايخ، ويذكرون في ترجمة أبي حنيفة، وأرجو ألا يكون فيه مبالغة ، أنه كان له ألف شيخ ، وهذا ما يستبعد ، لأنه واقعيا نعلم من معجم الطبراني الصغير أنه كان له أكثر من ألف شيخ .ففكروا معي الآن .هذا الطالب للعلم، أو هذا العالم الذي كان له ألف شيخ؛ مثل هذا الفريخ الذي ليس له شيخ؟، لا يستويان مثلا أبدا.ولذلك أرجو أن تضعوا نصب أعينكم هذه الحقيقة.

نحن الآن ننشئ أنفسنا بأنفسنا، ولا نستطيع أن نقدم إلى الآخرين ما يرجون منا، لأنه أمر سابق لأوانه.

بقلم الأستاذ عمرو بسيوني

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد