“لِتَعَارَفُوا” خطوة نحو المشترك الإنساني


لِنَنتقلْ من صدام الحضارات الذي دعا إليه هنتنغتون إلى حوار الحضارات، ومن العولمة التي تُفرض قسرا على البشر إلى العالَمية التي تدعو إلى التعارف للوصول إلى المشترك الإنساني، لكن ليس من السهولة أن تتبلور النظرية أو المشروع بين عشية وضحاها؛ فهي تحتاج إلى دراسات وقراءات ولقاءات وحوارات تشهد التعددية والاختلاف في الساحة الدولية.

وفي زحام التيه والقلق الذي رسخه فوكوياما حول نهاية التاريخ، أو ما طرحه بوش الابن حول الحرب الصليبية وصولا إلى ترامب الذي يعلن الحق الأمريكي في السيطرة على الثروات العربية، أو غير ذلك من صيحات غربية غير عقلانية باتت تنفخ في نيران الصراع الإنساني؛ بدأت تُقرع نواقيس الخطر في العالم كله على نحو يمكن أن ينذر بحرب كونية مدمرة لا تبقي ولا تذر.

ولتفادي هذا الخطاب لا بد من دراسة المنطقة المشتركة على المستوى الإنساني، القادرة على الجمع بين الفرقاء مهما اتسعت بينهم شقة الخلاف، ولعل أرقى الأنماط الجدلية في التاريخ ما دعا إليه الإسلام ورسوله الخاتم من المجادلة بالتي هي أحسن بناء على منطق الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو قياس حضاري إنساني رائع.

إن البحث عن المشترك يتجاوز منطق الخصومة والصدام، ويؤدي إلى التلاقي واحترام مساحات التشابه بين الأمم والشعوب على مستوى الفكر والإبداع للوقوف على أرض صلبة ورؤى متجانسة يحكمها ذلك التقارب، وغالبا ما يظل المشترك ضامنا لاحترام الخصوصية والهوية الذاتية لكل أمة دون التضحية بثرواتها وتاريخها أو تراثها الإنساني، قال الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة الحجرات: آية 13].

واليوم يحتاج العالم إلى خطاب ديني حضاري إنساني جامع بين احترام الوحدة والتنوع معا، وليس في هذا أرقى من خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حينما قال: ((يا أَيّها النَّاسُ! ألا إِنَّ ربَّكم واحدٌ وَإِنَّ أَبَاكم واحدٌ، ألا لا فَضلَ لِعربِيّ على عَجميّ وَلَا لِعَجميّ عَلَى عَرَبِيّ، ولَا أحمر على أَسودَ وَلَا أَسودَ على أَحمرَ إِلَّا بِالتَّقوى))([1]) فهذا الخطاب يمثل إرهاصات حقيقية للمشترك ومداخل رحبة للتعارف بين الشعوب والأمم والحضارات.

إن البحث عن المشترك مدخل إلى السلام الإنساني ونشر لقيم الصفح والتسامح بدلا من الدموية والعنف، لا سيما في ظل ما يدعو إليه البعض من صدام الحضارات.

وفي هذا السياق ستتوالى الدراسات بعطائها الحضاري حول الإنسان وحقوقه وقضاياه ومشكلاته في زمن غابت فيه قيم العدل وشاعت فيه ازدواجية المعايير، وسيكون هذا الخطاب تأصيلًا للدور الحضاري ليتعلّم الإنسان كيف يكون إنسانًا؛ فلا يتحول إلى وغد أو إرهابيّ دمويّ عدوانيّ، ولا يلجأ إلى التّعنت والقهر أو استعباد خلق الله أو كراهية البشر والعربدة على حساب الأبرياء على النمط الذي انتهجته حركات الاحتلال وأنظمة الاستبداد في سباق خطابٍ عدواني مخيف وثقافة تبريرية لمنطق الطغيان والعدوان على الآخر.

إذا ما قرأنا صفحات التاريخ فإننا سنجد أن سلوك المسلم كان حبًّا للآخر، واحترامًا لمساحاتِ التلاقي معه والتفاعل مع فكره والتداخل في نتاج عقله والرقيّ في مجادلته أو مناظرته، وهو ما ظل سمتًا للثقافة الإسلامية في مُثاقفَتِها وتلاقحها مع كل ما حولها.

لقد صدرنا للغرب الأوربيّ في عصور ظلامه فكر ابن سينا وابن رشد والكندي والفارابي وابن حيان وابن الهيثم والإدريسي والخوارزمي والرازي، وغيرهم كثير… هذا ما تشهد به صفحات التاريخ، بينما في المقابل نجد عدوانا بكل الوسائل على أمتنا في الماضي والحاضر هدفه منعنا من أي تقدم في الميدان الحضاري.

نحن نريد بخطابنا تجليةَ الحقائق وكشفَ الأباطيل، وبيانَ الزيف الذي يحيط بالإسلام وأهله إما من معاند أو مغامر أو جاهل أو مغالط أو حاقد، وإما من غير أهله قصورًا أو عجزًا أو افتراءً.

إننا اليوم بحاجة إلى تفعيل خطابنا الحضاريّ الإنسانيّ على مستوى العالم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يوم أن وضع للبشرية قانونًا شاملًا للعدالة والمساواة؛ فنحن مطالبون اليوم ببيان القيم الإنسانية العليا التي باتت ضرورة لا غنى عنها لكل البشر، وواجبنا – نحن المسلمين – أن نقرِّبَها إلى ذاكرة الناس في عصر طغيان المادة وتجاهل المثل العليا وضياع معنى الفضيلة والأخلاق.

لِنعلِّمِ العالم أن الهدف من خطابنا الإسلامي هو إنقاذ الإنسانية من رداءة واقعها المظلم، فقد غدت جرائم الإنسان ضد أخيه الإنسان – قتلا وخيانة أو غدرا وكراهية أو عدوانا وسرقة – مظهرًا مألوفًا من مظاهر الحياة الإنسانية، وإن كل هذه الأفعال البغيضة عبارة عن مظاهرَ للفساد والبغي في الأرض تنافي خطابَنا الإيماني جملةً وتفصيلًا.

في نَيْرِ النظام العالميّ الجديد عادت البشريةُ لتقترب من شريعة الغاب، وعاد منطق الغزوِ وقهرِ الضعفاء وانتهاكِ محارم الإنسان تحت طغيان القوة والبطش، وهو ما ينافي مبادئنا التي تحرم قطع شجرة أو قتل طفل أو إيذاء شيخ أو امرأة.

عاد المجتمع الإنساني اليوم في أُوارِ العولمة إلى دورة الإجرام من قتلٍ للنفس وتجريف للأرض وتدمير للحرثِ والنسل وتخريب للعمران، وتلك هي طريقة أعداء الحضارة وحقوق الإنسان على مدار حقب التاريخ.

وما يُرتكب في سوريا من جرائم يندى لها جبين الإنسانيّة وكذا في فلسطين والعراق واليمن وبورما وغيرها يستحق من العالم كله صحوة كبرى، هذا إن كان ثمة بقية من ضمير تسعى للحفاظ على حقوق الإنسان.

لقد بات المعجم البشري في منعطف خطيرٍ تسيطر عليه ماديّةُ الحضارة الغربية بكل ما فيها من صديدٍ أخلاقيٍّ وتبجحات سلوكية وتغييب للقيم التي يتشدق بها الأدعياء من أهل الزيف وأنصار الشعارات، وهذا يستدعي حتميةَ مراجعةِ ما يسمى بالمنظمات الدولية العالمية وما أفرزته من قوانين في غيبة الضوابط وبنود الشرعية الدولية.

يتشدق دعاة الحضارة المادية والأنظمة الاستبدادية بإسناد الإرهاب إلى الإسلام وأهله ظلمًا وبهتانًا، والحق أن الإسلام منه براء، وهؤلاء لجؤوا إلى تحويل الأنظار عما صنعوه من إرهاب في حق الإنسانية ماضيًا وحاضرًا عبر إلصاقه بدين الله، وحتى لو فرضنا أن هناك إرهابًا يصدر عن بعض المسلمين فإنّما هو ردة فعل على إرهابهم لا أكثر، ولا يمثل نقطة في بحر جرائمهم البغيضة.

لقد أصبحت لغة العالم شاخصة في منطق الصمت والتخاذل دون استنكار لما يقع من اختراق للقانون، حتى أصبح احترام القانون الدولي ضربًا من الوهم مقابل التجرؤ على اختراقه أو القفز على قرارات الشرعية الدولية من قبل سفاكي الدماء ومجرمي الحرب، وإلا فأين العالم من شعب أعزل يواجه عدوانًا مسلّحًا من الأنظمةِ والقوى الإقليمية والعالمية؟ بل أين القانون والخطاب الحضاري الذي يدعيه إنسان القرن الواحد والعشرين؟ أم إن جحافل العصور الوسطى ما زالت تسود الساحة الإنسانية؛ والعالمُ تُجاهها يؤثر الصمت، فهو أصم أبكم لا يسمع ولا يرى.

ويكفي دليلا على الانحطاط والتوحش الذي وصل إليه عالمنا اليوم استخدام الروس حق النقضِ ضد كل القرارات والقوانين التي تحمي الشعب السوري وتنقذه من جلاده، فيا للعار لِمجلسٍ لا يستطيع حماية الضعفاء!

لقد عادت الهمجية أدراجَها مع رحلة الضمير الذي سقط سهوا أو عمدا في مستنقع الجشع البشري، وزاد الأمر تعقيدا صمت الشرفاء في هذا العالم حتى عدنا إلى عصر العبوديّة وقهر الإنسان في ظل سلطة أدعياء الحضارة والمثل الإنسانية، وكان ذلك نتيجة لتخلي الحضارة الإسلامية عن قيادة الركب الإنساني، وإنه مع عودة هذه الحضارة سيعود الاستقرار إلى عالمنا وسنشهد انحسارًا في رقعة الصراع الإنسانيّ وما ينتج عنه من تخلف ودمار… وما ذلك على الله بعزيز.

==========

[1])) رواه الإمام أحمد في مسنده رقم (23489).

بقلم: حسين عبد الهادي آل بكر

 

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد