ظواهر سلبية في الأوساط الدعوية والعلمية


‏من الظواهر السلبية التي ألاحظها في الوسط العلمي والدعوي أن الكثير من الشباب الصغير الذي يطلب العلم لديه نوع من الاستخفاف بالقيمة العلمية لشخصيات علمية ودعوية سبقته بجيل أو جيلين (من هم الآن في العقد الخامس والسادس والسابع)، فهو يرى أنهم لم يتعمّقوا العمق الذي هو عليه الآن، وهو أكثر معرفة منهم ببعض تفاصيل الواقع بل ببعض تفاصيل التراث الذي اجتهد في مسح كتبه.

من يمارس هذا الاستخفاف لم يتأدّب بآداب الدعوة، فالنقد مطلوب لا شك في ذلك، ولا أحد فوق النقد لسنّه أو أسبقيّته في العلم والدعوة، ولكن هذه الأسبقية تجعل الإنسان العاقل الذي يدرك آثار الزمن (في عصرنا هذا المتسارع تحديدا!) على عقلية الإنسان يتروّى في الاستخفاف بمن سبقه ويعتذر لهم، ولا يجعل من نفسه أبو العرّيف الفاهم الذي يتعامل مع مجموعة من الجهلة!

شبيه بهذه الظاهرة ما يحدث من نقد بعض المعاصرين لكتب التراث، فهم يجهلون الظروف الموضوعية التي عاشها ذلك العالم، الذي ربما كتب الكتاب كله من حفظه ولم تتوفر له تحقيقات الألباني مطبوعةً مفهرسةً ولا موقع “الباحث الحديثي” ولا “المكتبة الشاملة”، ولم تجتمع عنده أطراف كتب التراث في بوتقة واحدة يحصل على ما يريد منها بضغطة زر. ولهذا ستجد العالم القديم يستشهد بأحاديث ضعيفة، فضلا عن كون الاستشهاد بأحاديث ضعيفة ليس شيئا مفروغا من خطئه وفي الأمر سعة، وما ضعفه فلان ليس بالضرورة أن يضعفه غيره.

وبالعودة إلى الجيل السابق في العلم والدعوة فما يجهله هؤلاء الشباب أن هذا الجيل نفسه كان في بداية طلبه يرى الجيل السابق له غير متعمق في كتب التراث، لم يقرأ ابن تيمية وابن القيم كما يجب، أو لم يقرأ الفكر الغربي كما ينبغي، ونحن الآن سنقوم بالتجديد وبتعريف العالم بهذا التراث أو بنقد أسس الحضارة الغربية!

وهكذا، سيأتي جيل متمترس بأدوات الإحصاء والمسح، وربما بما لم يخلقه الله بعد من وسائل علمية ومفاهيم بحثية، وسينظر إلى جهودك ومفاهيمك أيها الشاب (بعد أن تشيخ) باعتبارها جهودا ومفاهيم “سطحية” أو تفتقر إلى الدقّة والعمق!

وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار القوالب الأسلوبية التي تروج في كل عصر، ثم تصبح “موضة قديمة” في عصر تال، مما يجعل بعض الشباب يشعر بالإحباط من الأسلوب، فيمنعه ذلك من الاستفادة من أفكار الكاتب. وهذا ما يحدث مع من يتغافل عن الأهمية الفكرية للأدبيات الإسلامية في خمسينيات حتى تسعينيات القرن الماضي، والتي كانت مشحونة بالخطابية والعناصر الأدبية وبعض الحدّية التي كانت لها ظروفها، مع الابتعاد عن الدقة الأكاديمية أحيانا، والتي باتت اليوم أكثر رواجا بعد اطلاع الشباب المثقف على الأعمال المترجمة لكبار الدارسين في الغرب. علمًا أن المنهج الأكاديمي في الكتابة قد يكون قناعا يخفي أدلجة الكاتب، وقد تكون الكتابات المتحررة من قيود الأكاديميا الرسمية مليئة بالنقول العلمية وملتزمة إلى حد كبير بالمنهج العلمي في البحث.

ولهذا فالواجب مع ضرورة النقد حفظ الاحترام وإعذار هؤلاء السابقين، ومراعاة طبيعة العصر والظروف واللحظة التاريخية التي عاشوا فيها. بل ربما ما تعتبره أنت اليوم طرحا سطحيا يكون بسبب ما أدمنتَ عليه من كتب “الجعلكة” اللغوية والتعقيد الكلامي والمفاهيم الفلسفية، ولو جاءك مفكر غربي بتحليل للواقع بمصطلحات فلسفية لحاز على إعجابك، حتى لو كان مضمون كلامه سطحيا أو تكرارا لمفاهيم اجتُرّت قبله بعشرات السنين!

وطالب العلم الذكي هو من يعرف كيف يستفيد من كتابات السابقين مهما بدت لغتها تقليدية ومباشرة، دون أن يهدر قيمة الكلام لوجود بعض الأخطاء أو بعض المفاهيم التي باتت “قديمة” وربما “سطحية” في نظره؛ فهذه المفاهيم لم تصبح قديمة إلا بعد أن جهر بها هؤلاء الدعاة حين كانت غريبة ينكرها الناس، ولعل بعض الخطأ في الطرح قد حدث، فنعتذر لهم عن ذلك ولا نغفل الكثير الغالب على كلامهم، ونجوّد المفاهيم ونتقدّم للأمام، دون استخفاف ومع حفظ حقوق السابقين وفضلهم.

بقلم: شريف محمد جابر

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد