حفظ الكرامة وطلب السمعة الحسنة


يحيا الإنسان حين يحيا بين الناس بأمرين اثنين هما غاية في الأهمية، ومنتهى ً في الطلب، وأقصى المقصد والرغب ، دينِه ، وحسنِ سيرته بين الناس ، فالأول لا بد منه ، والثاني أمر مطلوب شرعاً ومحضوض عليه؛ لأن السمعة الحسنة والاسم الحسن والسلوك المنضبط بضوابط الشريعة وأعراف الناس من صلب هدي الإسلام .

فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه، ويحترز لسمعته، ويحفظ كرامته، ويكرم اسمه، ويحذر أن يلطخه بأية شائبة؛ حتى يحيا بين الناس كريماً؛ على ما قال محمود سامي البارودي رحمه الله :

لَعَمْرُكَ مَا يُدْعَى الْفَتَى بَيْنَ قَــــــوْمِهِ=بِذِي كَرَمٍ حَتَّى يَكُونَ كَرِيـــمَا

فَمِزْ بَيْنَ مَا تَخْتَارُ فِي الْفِعْلِ وَالْتَمِسْ=لِنَفْسِكَ حَظّاً كَيْ تَكُونَ عَظِيمَا

وإذا ما أساء إليه أحد، أو تحدث عنه امرؤ بسوء، أو أجرى لسانه عليه جرحاً وإيلاماً فلا يلومن إلا نفسه ، ودليل هذا قوله عليه الصلاة والسلام : ” الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ.

واتقاء الشبهات يعني فيما يعنيه ترك كل ما لم يتضح أمره بحل أو بحرمة؛ خشية أن يكون داعية للناس إلى الوقوع في عرضك والحديث عنك بسوء … فضلاً عن الحرام البين .

ونبينا عليه الصلاة والسلام علمنا تطبيقاً كيف يكون الاحتياط للسمعة؟ وكيف يسد الإنسان باب وقوع الناس فيه؟ وذلك بأن لا يسلك المرء مسالك التهم ، تروي السيدة صَفِيَّة بِنْتِ حُيَيٍّ فتقول: ” كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ لَيْلًا أَزُورُهُ، فَحَدَّثْتُهُ، ثُمَّ قُمْتُ فَانْقَلَبْتُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَمَرَّ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا رَأَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا» أَوْ قَالَ: «شَيْئًا».

قال الإمام ابن حجر في الفتح تعليقاً على هذا الحديث : وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ : التَّحَرُّزُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِسُوءِ الظَّنِّ وَالِاحْتِفَاظُ مِنْ كَيَدِ الشَّيْطَان والاعتذار، قَالَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا مُتَأَكِّدٌ فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلًا يُوجِبُ سُوءَ الظَّنِّ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ مَخْلَصٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ إِلَى إِبْطَالِ الِانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَجْهَ الْحُكْمِ إِذَا كَانَ خَافِيًا نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ مَنْ يَتَظَاهَرُ بِمَظَاهِرِ السُّوءِ وَيَعْتَذِرُ بِأَنَّهُ يُجَرِّبُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَدْ عَظُمَ الْبَلَاءُ بِهَذَا الصِّنْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(1).

إنه الحفاظ على السمعة، والاحتياط للذات أن تكون محط حديث الناس وسلبها والقدح فيها … وليس بكثير على الإنسان أن يطلب حسن السمعة ولو ببذل مال، وتضحية بنفيس، والتنازل عن أي عزيز .

يحكي الشيخ عبد السلام المباركفوري في كتابه سيرة الإمام البخاري(1/122-123) أن الإمام البخاري ركب البحر مرة في أيام طلبه، وكان معه ألف دينار، فجاءه رجل من أصحاب السفينة، وأظهر له حبه ومودته، وأصبح يقاربه ويجالسه، فلما رأى الامام حبه وولاءه مال إليه، وبلغ الأمر أنه بعد المجالسات أخبره عن الدنانير الموجودة عنده .

وذات يوم قام صاحبه من النوم؛ فأصبح يبكي ويُعْوِل، ويمزق ثيابه، ويلطم وجهه ورأسه، فلما رأى الناس حالته تلك أخذتهم الدهشة والحيرة، وأخذوا يسألونه عن السبب ، وألحوا عليه في السؤال ، فقال لهم : كانت عندي صرة فيها ألف دينار وقد ضاعت!.

فأصبح الناس يفتشون ركاب السفينة واحداً واحداً، وحينئذ أخرج البخاري صرة دنانيره خِفْية وألقاها في البحر ، ووصل المفتشون إليه وفتشوه أيضاً فلم يظفروا بشيء ، كما لم يجدو شيئاً عند باقي ركاب السفينة، فرجعوا إلى الرجل المدعي، ولاموه، ووبخوه توبيخاً شديداً .

ولما نزل الناس من السفينة جاء الرجل الى الإمام البخاري وسأله عما فعل بصرة الدنانير؟ .

فقال: ألقيتها في البحر !.

قال : كيف صبرت على ضياع هذا المال العظيم ؟.

فقال له الامام : يا جاهل …أتدري أنني أفنيت حياتي كلها في جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرف العالم ثقتي ، فكيف كان ينبغي لي أن أجعل نفسي عرضة لتهمة السرقة؟. وهل الدرة الثمينة (الثقة والعدالة) التي حصلت عليها في حياتي أضيعها من أجل دراهم معدودة؟.

لقد اشترى سمعته بمال عظيم …

وتحكي الكتب أن رجلاً أودع أمانة عند تاجر على أن يأخذها منه بعد أيام، وعاد، ولكنه نسي ملامح التاجر، فدلف إلى متجر؛ فرأى صاحبه؛ فظنه طلبته، فقال له: أين أمانتي التي أودعتكها؟ ، فتأمل فيه التاجر ملياً ثم قال : كم كانت ؟ قال: خمسة دنانير ذهبية؛ فأخرجها من صرته، ودفعها إليه .

وعاد أدراجه، وفي مكان آخر من السوق رأى التاجر الأول الذي أودعه الوديعة، فاستردها منه، وعاد إلى التاجر المظنون؛ فقال:” لم دفعت إلي المال ولست بالمستودع إياه ، قال : لأنك طالبتني به بين مجموعة من التجار، وهم أقراني في الصنعة، ولو أني أنكرت ذلك لاتهمت في أمانتي وذمتي، وساءت بين التجار سمعتي؛ فأنا اشتريتها بخمس دنانير ذهبية، فهل أنا مغبون يا ترى ؟ قال : لا … فقبل رأسه وانصرف .

فادرأ التهم عن نفسك أيها المؤمن، واطلب لها السلامة؛ كي لا تقع أسير الحسرة والندامة .

====

1 فتح الباري شرح صحيح البخاري ، لابن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، الناشر: دار المعرفة – بيروت، 1379، بترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب ، 4/280.

 

بقلم: ياسر مصطفى يوسف

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد