ثقافة الاختلاف.. تلاقح الأفكار والآراء سبب ازدهار الأمم!


تتميز المجتمعات المتقدمة عن سواها بسمات كثيرة، منها شيوع بين مكوناتها. مقابل ذلك، يلاحظ انتشار خطاب الإقصاء وميل الأفراد نحو رفض الرأي المخالف في المجتمعات المتخلفة. وبين من يرى في الاختلاف نعمة ومصدر غنى لا يمكن سوى أن يساعد على بروز أنماط تفكير جديدة، وبين من يعتقد أن الحقيقة وحيدة ومطلقة وهي غالبا ما تكون بجانبه، تتعدد أفهام الناس بخصوص مفهوم الاختلاف، لذلك أحببت أن أقف عنده من حيث هو قيمة ومبدأ، وعند نفور بعض الناس من الاختلاف وعدم استساغتهم له سواء أكان موضوع الاختلاف فكرة أو ثقافة أو معتقدا أو مبدأ.

لا يجد كثيرون حرجا في الحديث بلكنة كلها جزم وقطع ويقين، لا يتركون معها مكانا لشيء يسمى الرأي المخالف، وكأنهم أعرف العارفين، والمزعج هو أن يصبح رفض المخالف عقيدة مجتمعية، لأن ذلك لا يمكن سوى أن يكون مرآة لخلل معين في الفكر الجمعي لمجتمع معين. وحينما تكون ثقافة الاختلاف مفقودة فإن أسئلة جوهرية تفرض نفسها من قبيل أن نتساءل عن كيفية تطرق المناهج المدرسية لسؤال الاختلاف، وهل يناقش داخل الأقسام، وهل يحاول المسؤولون عن الشؤون التربوية تمرير فكر “احترام المخالف” للتلاميذ حتى يصير جزءا من شخصيتهم، ثم أي شيء يقف وراء عجز كثير من الناس عن حسن الإنصات ومحاولة فهم محتوى كلام مخاطبهم، ألا يعكس ذلك عدم القدرة على الحوار والإقناع؟

في ظل الثورة الرقمية والتكنولوجية التي يشهدها العالم اليوم، تمكن الإنسان من أن ينفتح على الآخر الذي يختلف عنه رغم إكراه البعد الجغرافي، حيث ساهمت الأفلام والبرامج والوثائقيات في نقل واقع مجتمعات أخرى تختلف معنا في البشرة أو في اللغة أو في الثقافة أو في القيم أو في المعتقدات أو غيرها.. ولربما بدأ بعض الناس يفهمون أن الاختلاف ثابت، وأن المتغير هو طريقة التعامل مع هذا الاختلاف، فإما أن نحسن إدارته من خلال احترام المخالف ومحاورته مع كل ما قد ينتج عن ذلك من تبدل في وجهات النظر، وإما نرفضه ونعرض عنه. وحينما أدعو إلى التحلي بالاحترام تجاه من يختلف معنا، فإني لا أدعو بذلك إلى الارتماء الأعمى بين أحضان أفكاره وإلى تبني آرائه، بل أؤكد على أهمية الإقرار بكينونة “آخر مختلف”، وفهم أن ذلك مهم وأساسي حتى نعيش كلنا، وحتى يتطور الفكر الإنساني في عمومه.

تخيلوا لوهلة واحدة عالما فيه أناس متشابهون؛ فكر واحد وثقافة واحدة، ولغة واحدة، أناس تجمعهم القيم والتقاليد عينها، ويتمثلون العالم بالأسلوب نفسه، ألن يكون عالما غارقا في الملل إلى الأذنين؟ ألا يصير الاختلاف وأنتم تتذكرون هذه الصورة نعمة كبرى تخفي وراءها حكما أعظم؟

حينما يعجز الفرد عن إدارة الاختلاف مع آخر من نفس المجتمع الذي ينتمي إليه، فحينئذ يتوجب قرع جرس الإنذار إيذانا بمشكلة في قيم المجتمع المعني، لأن التعددية هي رافد مهم من روافد التقدم القويم والصحيح، معنى هذا الكلام أنه في داخل مجتمع ما، مهما اختلفنا وطالما قبلنا الاختلاف وجعلناه بوابة للحوار وتبادل الأفكار، فإن ذلك لا يمكن إلا أن يكون نافعا للمجتمع برمته، لأن الاختلاف والحوار الذي قد ينتج عنه لا يغيران مقدار ذرة في وصال المختلفين، بل إنهما يفتحان مداركهم نحو تمثلات جديدة ربما كانوا على جهل بها، والاختلاف لا يفسد للود قضية حسب القولة المأثورة.

من جهة أخرى، لا يمكن أن نفصل بين الاختلاف وطرق التواصل بين الناس، وهو ما يعبر عنه الكاتب ستيفان كوفي حينما يقول “إن أعظم مشكل نواجهه ونحن نتواصل هو أننا لا ننصت لكي نفهم، بل ننصت لكي نجيب”. وحينما يندفع المرء إلى الكلام دون أي محاولة لفهم آراء من حوله، فإن ذلك لا يمكن إلا أن يقوده إلى رفض الآخر، فهو يرفض حتى أن تتلقف أذناه خطاب الآخر، فكيف أن يمحصه ويرد عليه، لذلك فثقافتا الاختلاف والحوار لا تنفصلان، كما أن إحياء لغة الحوار هي أول خطوة نحو بناء مجتمع يؤمن بثقافة الاختلاف.

إن النزعة الاستئصالية والخوف من الآخر المختلف عنا، والتعصب للفكرة الواحدة، هي من علامات التخلف الذي لا يوصل لشيء سوى إلى مزيد من التخلف.. ويصير الأمر سيئا حد السخرية حينما تكون فكرة الآخر الذي ترفضه أقرب إلى الصواب مما أنت تعتقده، لا بل إنه من الغباء أن يرفض المرء من يختلف معه، ثم إن الاكتفاء بالتفاعل مع من يحملون نفس أفكارنا ونفس قناعاتنا لن يحمل جديدا ولن يقدم شيئا.

إن قبول الآخر مهما كانت أبعاد اختلافنا معه ضرورة لا محيد عنها، وواجب لمن أراد أن يستشرف المستقبل بأمان، ولا تعارض إطلاقا بين قبول الاختلاف والفكر التعددي من جهة والفكر المحافظ الهوياتي من جهة ثانية؛ فالفكرة المخالفة بوسعها أن تكون منبع إلهام أو مصدر صقل ونحت لأفكارنا، فنصير ونحن نمزج بين الفكرة الأصلية التي نؤمن بصحتها وفكرة الآخر التي انفتحنا عليها منتجين لأفكار جديدة، أما أولئك الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم متى ما بزغ فكر مختلف عما هم يؤمنون به، فإنهم لا يقومون سوى بحشر أنفسهم في زاوية مغلقة ومعزولة، وهم يحرمون ذواتهم من خير كثير عنوانه تلاقح الأفكار والآراء الذي هو من أسباب ازدهار الأمم والمجتمعات.

بقلم الأستاذ: نعمان أمنشار

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد