الشرعيون والسياسة.. أين الخلل؟


“فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه” ابن قيم الجوزية.

يستند الشرعيون عادة في معالجتهم للأطروحات والإشكالات السياسية التي تمر بها دولنا العربية الإسلامية إلى نصوص الشريعة الإسلامية من الكتاب والسنة، وأقوال من سبق من أئمة الإسلام، باعتبار أن الله سبحانه وتعالى قد أكمل الدين “اليوم أكملت لكم دينكم” وأنزل الله سبحانه تعالى كتابه تبياناً لكل شيء، يقول تعالى “وأنزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء”، والسياسة شيء، فلابد أنها مشمولة بهذا البيان الكلي، تبدو المسألة بسيطة من حيث التنظير، أما من حيث الواقع العملي فالأمر أعقد من ذلك بكثير، فهناك قصور شديد في معالجة الإشكالات والأطروحات السياسية لدى الشرعيين يتضح من خلال الجوانب الأربعة التالية:

الجانب الأول: عدم فهم المنهج الشرعي في التعامل مع القضايا السياسية، وليس المقصود بذلك الإحاطة بنصوص الشريعة كلها بقدر فهم ومعرفة المنهج الشرعي في بيان الأحكام المستفادة من النصوص، فالنصوص ليست كلها ذات دلالة واحدة صريحة غير محتملة، بل تنقسم في دلالتها إلى قطعية الدلالة، وهي النصوص التي ينتفي فيها الاحتمال، ويتعين فيها فهم واحد للمسألة، وهذه النصوص في المجال السياسي عادة ما تؤسس للأصول العامة، كوجوب توحيد الله في الملك، وتحريم إشراك أحد معه من خلقه في ملكه، ووجوب الحكم بالعدل، ووحدة الأمة، وأداء الأمانة، والحكم بالشورى: تولية وعملا، والنصوص الظنية التي ترد على كثير من الفروع السياسية، فضلا عن كثير من المسائل التي تندرج تحت باب المصالح المرسلة التي لم يأت على ذكرها نص من كتاب أو سنة.

والإشكال الذي يرد عند جماعة من الشرعيين هو حمل المسائل الظنية المحتملة: كالانتخاب، وتشكيل الأحزاب، وولاية المرأة، وتمثيل غير المسلم في البرلمان، وتحديد مدة ولاية الحاكم، والاستفادة من آليات الديمقراطية والمنتجات الغربية السياسية التي لا تتعارض بالكلية مع ديننا وقيمنا. أقول تحمل هذه المسائل الفرعية الظنية التي ليس على منعها دليل صحيح صريح على المسائل القطعية الصريحة في المنع فيفتي المفتي بحرمة ذلك كله، ليس اجتهادا يقبل فيه الاختلاف، ويحتمل كل من المختلفين صحة ما عند الآخر، بل يرمي من يحرم ذلك كله حين يحمله على القطعيات غيره من المخالفين بالبدعة والضلال ومخالفة النهج النبوي، والضعف والهزيمة النفسية أمام الغرب، وتمييع الدين إلى آخر ذلك من الأوصاف..

وهذا المنهج هو ما يحدو بالحكام إلى مجانبة الحكم الشرعي في القضايا السياسية لأنهم يرونه قاصرا عن القيام بواجبات السياسة، ليس قصرا في الشريعة بقدر ما هو قصر في أفهام المتصدرين لها، وقد نبه إلى ذلك ابن القيم في زمنه: فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمرهم إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أحدثوا من أوضاع سياساتهم شرا طويلا، وفسادا عريضا فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه -وما ذلك إلا لأن طائفة فرطت في فهم الشريعة- وجعلوها قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها. انتهى، فإذا كان الأمر كذلك قبل ما يقرب من ستة قرون فما بالك به اليوم!!

والجانب الثاني: عدم معرفة الواقع السياسي المعاصر، وهذا لا بد منه لفهم طبيعة النظم السياسية المعاصرة، والتي يطلق عليها دول، فالدولة بالمفهوم المعاصر اليوم هي منتج حداثي من منتجات الفلسفة الغربية، فلابد من فهم الفلسفة الغربية التي تأسس بناء عليها هذا الكيان المعاصر والمسمى بالدولة، فضلا عن ضرورة فهم التاريخ السياسي الذي نشأت فيه الكيانات المعاصرة، متى نشأت وكيف نشأت؟ وما علاقة المستعمر الغربي بنشأة هذه الكيانات؟ وما هي الثوابت التي نشأت عليها؟ فلا يكفي لنظام أن يسمي نفسه ديمقراطيا أو إسلاميا مثلا لكي تصح له هذه النسبة؟

فعند اطلاع بسيط على تاريخ نشأة هذا الكيان نجد أن الثوابت التي تأسس عليها كانت تفاهمات وظيفية مصلحية مع المستعمر تضمن بقاء النظام الحاكم مقابل الوفاء بالتزامات للدول المستعمرة وورثتها اليوم، وهذه التفاهمات والثوابت بعيدة كل البعد عن الثوابت التي تدعي الدولة أنها قامت عليها سواء أكانت ديمقراطية أو إسلامية أو قومية، بمجرد أن تتعارض تلك الثوابت الأصلية مع الثوابت المدعاة، تجد أن الثوابت المدعاة “ديمقراطية، إسلامية، قومية.. إلخ” يتم التضحية بها بكل بساطة في سبيل استقرار النظام الحاكم على كرسيه، وبفهم طبيعة العلاقة مع المستعمر القديم أو وريثه اليوم يمكن فهم السياسة العامة لدولنا العربية، التي تقوم على صفقة متبادلة بين رعاية المصالح الغربية مقابل حماية عروش الجالسين على كراسي الحكم.

وللأسف كثير من الشرعيين بعيدون كل البعد عن دراسة أو حتى التفاعل مع الدراسات الدولية والسياسية المعاصرة التي، ولا أدري إن الحكم على الشيء فرعا عن تصوره، كيف يتصدر الشرعيون للحكم في ما يتعلق بالدولة ومفهوم الدولة وطبيعة الدولة وكل ما يتعلق بها تقريبا لا يملكون تصورا صحيحاً بل أحياناً لا يملكون أي تصور حول الدولة، بل إن بعض الجماعات تعتبر ما يتعلق بالسياسة مما لا يفيد، ومن السياسة ترك السياسة، حتى إن بعض المشايخ من كبرى هيئات الإفتاء صرح بالقول: إن السياسة والاشتغال بها هي من باب العلم الذي لا ينفع، وإن العلم النافع هو التوحيد. انتهى، وكأن الاشتغال بالسياسة شرك أو كفر.

الجانب الثالث: ولا بد كذلك من فهم طبيعة التاريخ السياسي للنظم السياسية الإسلامية التي قامت في عصور الخلافة من عهد الراشدين وحتى نهاية عصر العثمانيين، لفهم طبيعة المبدأ التي كانت تتأسس وتقوم عليه الدول، وكيف انتقلت الشرعية السياسية من شرعية شورى الأمة القطعية التي أصلتها النصوص، إلى شرعية عصبية القبيلة التي فرضت نفسها من باب “الضرورات تبيح المحظورات” نتيجة ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية خاصة ميزت تلك الفترة، وأثرت في طبيعة الفتاوي السياسية التي كانت تصدر من أئمة الإسلام في شرعنة تلك الأنظمة مع مخالفتها الصريحة للأحكام القطعية المستفادة من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، والتي أنتجت خللا منهجياً خطيراً، يتمثل في الجانب الرابع الآتي:

الجانب الرابع: هو إسقاط الأحكام الشرعية على الواقع، فيأتي من شرعيي اليوم من يسقط اجتهادات من سبق من أعلام الإسلام في بيان الأحكام السياسية المتعلقة بزمنهم على الأحكام السياسية في زمننا المعاصر، مما ينتج عنه خلل شديد في الحكم، فيأتي إلى فتاوى من سبق بشرعية التولي بالتغلب، وقهر الناس بالسيف، وهو الحكم المبني على الضرورة لظرف سياسي تاريخي اجتماعي خاص اقتضى الحكم به، ويسقط هذا الحكم على أنظمتنا المعاصرة فيقول بشرعية من تولى بالقهر والانقلاب نقلا عمن سبق مع غير مراعاة لعلة أو سبب أو ظرف أو سياق سياسي تاريخي اجتماعي اقتضى هذا الحكم المخالف مخالفة صريحة لقطعيات النصوص .

بقلم أنس غازي عناية

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد