الداعية والسياسي


الدين – الإسلام خصوصًا – جوهر ممتد وشامل، يستوعب جميع الأنشطة الإنسانية، بصورة أو بأخرى. ذلك أمر واضح تمامًا في النصوص الدينية ومدوناتها الفقهية. وقد تناولنا الملامح العامة لذلك الموضوع في المقال السابق عن: الإسلام وتفاصيل الحياة.

ولا شك أن السياسة والحكم من الأمور التي تأتي في القلب من ذلك التقاطع بين الدين والحياة، وبخاصة عندما نتكلم عن دين كالإسلام.ومن ناحية أخرى فإن تصورنا لمفهوم السياسة بمعناها الأشمل يعطينا بينةً أخرى على ذلك التقاطع، فالسياسة هي مركز الحياة العامة للمجتمعات البشرية، والنظام السياسي يعتبر هو النشاط الذي ينظم الحياة العامة، ويضمن الأمن، ويقيم التوازن بين الأفراد والجماعات المتنافسة والمتصارعة. السياسة تكمن في أغلب تضاعيف حياتنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وحتى الرياضية والترفيهية، كالدين. لذلك كانت السياسة وستبقى منافسًا حاضرًا للدين، تخضع له حينًا، وتحاربه أحيانًا، وتستغله أحايين، ولكنها مشتبكة معه في علاقة ما دائمًا.

وبناء على ذلك فليس عويصًا أن نفهم وجود علاقة بين الفقيه والسياسي. بوضوح: فإن هذه العلاقة حتمية ولا فرار منها، مهما حاول الفقيه والسياسي كلاهما. ولكن الشأن في طبيعة تلك العلاقة والنمط الذي تأخذه. تتدرج تلك العلاقة وفق عديد من المستويات التي قد ترجع بدورها إلى السمات الشخصية لكل من الفقيه والسياسي، أو إلى الظروف التي تقوم فيها تلك العلاقة، أو إلى كليهما. تدخل تلك العوامل في امتزاج يصعب فصل بعضه عن بعض؛ وتنتج نمط العلاقة واتجاهها. فبين نمط علاقة الفقيه الحاكم، ونمط علاقة فقيه السلطان؛ تتدرج العلاقة على مقياس القيم الدينية والسياسية.

ولكن الذي أطرحه هنا هو أمر مغايرٌ قليلًا، مع قربه مما سبق. إنني لا أتناول العلاقة بين الفقيه والسياسي، بقطع النظر عن نمط تلك العلاقة، وموازين القوة والتأثير فيها واتجاهها. وهو أمر قد قُدِّمت فيه إسهامات بحثية كثيرة، في العالم الإسلامي، وفي الغرب.

ولكنني أتناول ظاهرة أخرى أفرزتها الثورات العربية الأخيرة، وهي اشتغال الداعية بالسياسة فعلًا. وأعبر هنا بالداعية لا الفقيه لسبب سيتضح.

لم تعد علاقة الداعية بالسياسة مجرد الإرشاد أو التوجيه أو حتى الانتقاد والمناوأة، بل أضحت تلك العلاقة علاقةَ مباشرةٍ للفعل السياسي، أصبح الداعية سياسًّا بالفعل لا بالقوة، بلسان الفلسفة الكلاسيكية، أضيف إليه دور اجتماعي آخر، بلسان السوسيولوجيا: بتأسيس الكيانات الحزبية السياسية والمشاركة فيها، والترشح للمناصب السياسية بدءًا من رأس الدولة وحتى عضوية البرلمانات، فضلا عن تنظيم الأنشطة السياسية المختلفة في صورها الداعمة والاحتجاجية كالتظاهرات، والظهور الإعلامي السياسي المكثف.

لا شك أن حراك الثورات العربية، وما ظهر للتيار الإسلامي من ثقل وتأثير فيها؛ قد حفز – أو غرَّ؟!- كثيرًا من الدعاة الإسلاميين إلى المشاركة السياسية.

الثورات – في عالمنا الحديث – لا تقوم لأسباب أيديولوجية، ولو كانت الدين، لكن الأيديولوجيات هي التي تقتسم نتائجها، كما يقول عزمي بشارة في كتابه (في الثورة والقابلية للثورة).

والأقدم من ذلك، ما قاله منذ خمسينيات القرن الماضي، المستشرق السياسي الفرنسي جاك بيرك، حول عالمنا العربي في حقبة التحرر الوطني التي جرى فيها وعقبها للإسلاميين قريبٌ مما يجري حاليًّا: (الاندفاعة الوطنية الأولى في أي قطر عربي تميل إلى إيجاد تجمّع عريض غير متجانس، حيث يتكون من عناصر متباينة متناقضة هدفها الوحيد الجامع تحقيق الاستقلال السياسي، ولكن سواء جاء الاستقلال عن طريق المفاوضة أو الثورة، فإن هذه التجمعات سرعان ما تتصدع وتحل الانشقاقات الفكرية والشخصية محل الشعور الوطني العفوي الشامل).

لم يدرك الإسلاميون تلك الحقيقة. وظنّ كثير منهم أن المواطنين المائجين في الشوارع يحملون طموحاتهم نفسها ومشروعهم نفسه، ولأجل ذلك خرجوا للثورة. ولذلك اعتقد كثير من هؤلاء الإسلاميين عن قناعة، وعن برجماتية أيضا، أن هذه هي اللحظة المناسبة لخوض السياسة وتطبيق الأيديولوجيا في عالم الواقع أخيرًا.

بطبيعة الحال جرى استحضار نوستالجيا العز بن عبد السلام وابن تيمية، كمثال على الفقيه المناضل سياسيًّا. الفكر الماضوي الطوباوي دون تدبر في معطيات الواقع – ودون تواضع في الحقيقة – هو من السمات الفكرية الأساسية للتيارات الإسلامية على اختلاف توجهاتها، إخوانية أو سلفية.

هناك الكثير من الفوارق الموضوعية، التي تمنع من الالتذاذ بتلك النوستالجيا حاليا.

طبيعة الدولة قبل الحداثية، ودور الفقيه والقاضي فيها وقدرته على التأثير فيها؛ هي أمر مختلف تمامًا عن تلك الدولة المعاصرة التي جرى تأميم الدين فيها وأصبح مجرد جهاز تابع دستوريًّا للدولة. أكثر الاتجاهات الإسلامية في مصر تحررًا من الفكر المؤسسي كما هو مفترض طبقًا لمرجعيتها الفكرية، وهو التيار السلفي الحركي المتمثل في الدعوة السلفية بحزبها – النور – لم تجد بُدًّا من اعتماد مفهوم كنسي لمرجعية الأزهر حول كل ما يتعلق بالدين، والسبب: التموضع في البناء السياسي للدولة الحديثة، التي الدين فيها مؤسسة دستورية، يعني تحت الدستور.

استدعاء النماذج التاريخية للفقيه السياسي، والتي هي نادرة أصلًا إن لاحظنا بموضوعية؛ هو استدعاء مفارق، لا يقرأ الفرق بين طبيعة الدولة القديمة والحديثة، وتأثير كلٍّ في الدين، وتأثرها به.

الدولة الحديثة واشتغالها السياسي المعقد، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي؛ ليس من السهولة بمكان أن نجد فيها ذلك الداعية – السوبرمان كما عبر الصديق أحمد سالم من قبل – الذي يمكنه أن يجمع بينها وبين الفقه حقا. يجب أن يقنع الفقيه فضلا عن الداعية بذلك ويتواضع. لم يعد الأمر (سياسة) قديمة، كما في العصور الوسطى ساعة العز وابن تيمية، حيث السياسة الاصطلاحية هي السياسة اللغوية تقريبا.

ليس هذا فحسب. بل من الناحية الواقعية التي تتعلق بالسمات الشخصية، فقد كان هؤلاء العلماء والفقهاء في الغاية من الورع والتحفظ، مع الغاية من العلم والفقه. فهل هذا ما وجدناه من خوض الدعاة في السياسة الحديثة؟

أحمد بن حنبل الذي قال عن نفسه باعتزاز: (أنا رجل لم أخالط السلطان)، وهو يتكلم عن المتوكل الذي ردّ الاعتبار لأهل الحديث في محنتهم، ومع ذلك رفض أحمد الدخول عليه أو قبول هداياه، بل قاطع بعض أقربائه الذين أخذوا من عطاياه؛ لأنه كان ظالمًا.

ابن تيمية الذي لم يأكل من مائدة السلطان التتري غازان، الذي أظهر الإسلام، وقاتل المماليك تحت دعوى توحيد المسلمين وإزالة المنكرات، ورغم أن ابن تيمية ذهب إليه آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، لا متودِّدًا ولا مزيِّنا لباطله، فإنهم لما حضروا مجلس قازان؛ قدم لهم الطعام، فأكل منه الجميع إلا ابن تيمية .فقيل له: لماذا لا تأكل؟، فقال: (كيف آكل من طعامك وكله مما نهبتم من أغنام الناس وطبختموه بما قطعتم من أشجار الناس؟).

أين هذا الذي سبق من هؤلاء الدعاة، الذين ليسوا بفقهاء، بل دعاة واعظون قليلو الفقه والتحقيق في العلم من جهة، وضعفاء النظر في الواقع بصورة تضحك الثكلى، فضلًا عن عمى بصيرتهم وقلة ورعهم، الذين دخلوا في ركاب المجرمين، وسوّلوا لهم جرائمهم، وأثنوا عليهم، وبدَّلوا مواقفهم بصورة مخزية، فبعد أن كان حصار غزة من موالاة الكفار، أصبح من معاونة المسلمين، وبعد أن كانت المادة الثانية هلامية وفارغة المضمون؛ أصبحت حصنًا للشريعة!

جلُّ ما خالف السلفيون فيه الإخوان فكريًّا وشرعيًّا، قبل الثورات؛ قالوا وفعلوا مثله أو أكبر منه بعدها. وهذا يدل في الحقيقة على أن هذه الخلافات لم تكن بتلك الصلابة، ولا تبقى بتلك الصلابة حين تنزل أرض الواقع ويتم التسييل والدوران في ماكينة السياسة الدولتية، لقد قدم كتاب (المشاركة لا المغالبة) لناثان براون قراءة طريفة حول نماذج من الأحزاب الدينية في أوروبا والشرق الأوسط التي انخرطت في العمل السياسي وجرى تخفيف مكوناتها الصلبة في محلول السياسة.

فهل كانت الغاية من إنشاء الدعوة السلفية أن تصير حزبا سياسيا، حين تسنح الظروف، وأن يصير كوادرها الشرعيون سياسيين حزبيين انتخابيين ديمقراطيين برلمانيين دولتيين؟ من الذي يمكنه أن يجيب على ذلك بالإيجاب؟

لبئس ما جنى الانخراط السياسي على المشايخ والدعاة:

كشف عن عيوب كثير منهم المنهجية والسلوكية، التي كان لا يطلع عليها إلا خواص طلبة العلم والمنشغلون بالشأن العلمي والدعوي، منحصرة في ذلك الإطار، لا يطلع عليها العامة، سواء من الإسلاميين أو غيرهم. ولكنك متى أصبحت (كائنًا سياسيًّا) فإن استهدافك الشخصي ورصد عثراتك؛ هو هدف مشروع ومباح في عالم السياسة.

– أفقدهم الهيبة عند كثير من النشء والشباب والجمهور المحايد، وجرأهم عليهم، وأسقطهم عن منزلة القدوات والهداة، إلى مرتبة الخصوم والمنافسين، فضلًا عن الأعداء. نحن نرى سبّ الدعاة والمشايخ، بأقذع الألفاظ؛ كنشاط يومي للعامة، بل ولكثير من الإسلاميين.

– زهّد الخاصة والعامة فيهم، ولو كانوا يتناولون أمرا غير سياسي. والعامة لا يدركون الفروق الدقيقة بين الرأي الشخصي أو السياسي، والرأي العلمي الديني. ومن ثم فإن الأخطاء السياسية كفيلة بإلقاء الداعية من الدور العاشر، وشطبه، ورفض جميع ما يقدّمه حول أي شأن ولو كان حقًّا.

– صرف الجماهير من أتباعهم، من الصف المتوسط ومن تحتهم؛ عن طلب العلم والتزكية، إلى المناوشات السياسية والكلام فيما لا يعلمون.

– غذّى الحزبية المحرمة، وزاد التعصب المذموم.

إن هناك فرقًا بين منزلة الداعية أو الفقيه تجاه تلاميذه والمستفيدين منه، وبين منزلة السياسي تجاه جمهوره.

فالعالم (يعلّم)، يوجّه الطلاب، ولا يحْسُن أن يعارضوه ببادي الرأي. وليس هذا تبعية عمياء، فالدين علم دقيق تخصصي، ولا يمكن للطالب أن يعارض الأستاذ مع نقص أدواته، وإن كان يمكن أن يستفهم منه باحترام. وهذا فضلًا عن النصوص الدينية التي تبين منزلة العالم وحقوقه على المتعلم.

أما السياسي فإنه (يقدم خدمة) للجمهور، يطلب رضاهم، ويريد منهم تأييده لكي يحفظ وجوده، ومن ثم فإنه يمكننا رفض السياسي وإغلاق الباب في وجهه كما نفعل مع أي بائع متطفل عند الحاجة.

نعم هناك حالات من الاتحاد بين السياسي والمنظِّر، ولكنها حالات نادرة كاريزماتية في السياسة المعاصرة، لا يمكن أن نبني عليها رؤية أو حتى تكتيك يتعلق بحالتنا، بخاصة مع القدرات المذهلة التي أظهرها الدعاة الإسلاميون إعلاميا وتواصليًّا، فضلا عن قدراتهم الفكرية والعلمية.

ومن ثم فإن هذا الخلط الذي يحدث عندما يصبح الداعية سياسيًّا؛ يؤدي إلى الارتباك عند أتباعه. فهل هو الشيخ الذي نقبل منه (الفتوى)، أم السياسي الذي نقبل منه (الخدمة)، هل هو المفتي والمرشد الذي (يوجهنا)، أم المرشح وصاحب البرنامج الذي (نقيِّمه). ونادر من الناس في واقعنا من يمكنه التفريق بين هذين، حتى الداعية السياسي نفسه يختلط ذلك عنده، ولا يقدر أن يدخل المسجد أو القناة بقبعتين، يرتدى واحدة فيتكلم كداعية، وثانية فيتكلم كسياسي. هناك داعية سلفي مشهور قال على الملأ إنه ينبغي أن (نقلد) (الشيخ) فلانا لأنه متخصص في الشؤون (السياسية). هذا هو بالضبط ما أعنيه بالخلط بين المجالين.

(إن موقع (الأستاذية) الذي يرى الداعية فيه نفسه يجعله بعيدا عن روح (الرسالة) الذي ينبغي أن يتحلى بها إن أراد بالفعل خدمة من حوله بإرشادهم إلى الطريق القويم. وبالرغم من الأدبيات الكثيرة التي تتحدث عن عدم عصمة أحد وتعرض الجميع لإمكانية الخطأ والصواب إلا أن الواقع يؤكد وجود ثقة بالنفس زائدة عما ينبغي، تدفع صاحبها إلى تخطئ كل من يخالفه في القول والفعل). كما يقول الدكتور صلاح الدين أرقه دان.

موقع الأستاذية الذي يشغله الداعية باستمرار، عندما يصير إلى مجال السياسة، المتغير والملتبس بطبيعته؛ يحوّل جمهوره إلى قطيع كمّي لا كيفي. يحوله حرفيا إلى (ألتراس) يبرر ولا يفكر.

إنه (يؤدي إلى إلغاء شخصية الفرد المسلم، فلا يستطيع أن يميز بين الصواب والخطأ، ولا الجد والهزل، ولا المفيد والمضر، ويصبح عالة على من اعتاد منه التوجيه والتلقي، وتراه كالهائم في صحراء لا معالم فيها، إن هو ابتعد عن مصادر الأوامر التي يتلقاها أو التوجيه الذي ينفذه. ويصبح الأفراد مجرد أعداد تضاف إلى قطيع يتحرك خلف قائده)، كما يقول الدكتور نفسه في كتابه (التخلف السياسي في الفكر الإسلامي المعاصر).

لقد طرحت الفقرة الأولى من هذا المقال لأقرر أن الشريعة، والفقه عمومًا؛ لم يمكن ولن يمكن أن ينعزل عن السياسة، كما يطمح العلمانيون.

على أن انعزال الفقيه والداعية عن (المشاركة) في السياسة المعاصرة، لاعتبارات موضوعية تتعلق بهذا النوع من السياسة، والإمكانات المتاحة له للتأثير فيها، والمفاسد المحتملة لخوضه فيها: هو خيار علمي فقهي شرعي سائغ، ليس من العلمانية في قريب ولا بعيد.

ولكن على كل حال؛ فإن هناك فرقًا بين اشتغال الإسلاميين بالسياسة بضوابط معينة كاشتباك قيمي أو معرفي، عند من يجيز ذلك، وبين هرولة المشايخ والدعاة للانخراط في السياسة فعليًّا، والعمل كعرّابين حزبيين سياسيين يفسدون أكثر مما يصلحون.

إن العزل الجزئي المطلوب للدعاة والمشايخ عن الاشتغال الوظيفي في السياسة؛ ليس عزلًا للدين عن التعاطي مع السياسة، وليس نافيًا للتواصل الأمين والتناصح المسدد وحتى المعارضة الشرعية بين الفقيه والسياسي، فإن الكتابة عن السباحة لا تبلّ الأوراق.

هذا العزل الجزئي بين الداعية والسياسي ضروري قبل أن يصبح الدين تيارًا، والدعاة راقصين، وطلبة العلم تجار شنطة لأحزاب، وأخلاقهم أخلاق بلطجية.

بقلم الأستاذ عمرو بسيوني

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد