الإيمان ليس صفقات!


الإيمان ليس صفقات تبرمها مع الله سبحانه وتعالى. فلا يجوز أن نربط إيماننا بأمور نفعية مصلحية، كأن نقول آمِنْ لكي يُبْسَطَ لك في الرزق، وآمن لكي تنجح كل مساعيك، وآمن لكي يبارك لك في عمرك. فالإيمان الذي يخضع لهذا المنطق النفعي المصلحي ولقانون الصفقات التجارية هو إيمان أوهن من بيت العنكبوت.

 فالملحد الكافر قد يصيب من المال ما يجعله أثرى الأثرياء، والفاسق الزنديق قد يتبوّأ أعلى المناصب، ومنكر الإله الواحد والنبوات واليوم الآخر قد يبلغ من الكبر عتيا في صحة وعافية وبحبوحة من العيش. والمؤمن قد يبتلى بالفقر المدقع المذل، والصالح قد يعمل في أسفل المناصب وفي أشق المهن، والشاب صاحب الديانة الملتزم قد يُغْتَضَرُ في ربيع العمر.

فمسألة التصديق والإيمان يجب أن تكون محكومة بما هو أنبل وأكرم وأوسع مدركًا وأشمل إحاطةً. إنها تنطوي على الجانب الذي يسمو بالنفس البشرية إلى أعلى الذرى ويرتقي بها إلى أرفع الدرجات. فهذا الناصري يجوب الجليل فقيرًا معدمًا فيسمو بالنفس الإنسانية إلى أعلى عليين. وذلك الصادق الأمين الذي ذاق اليتم والحرمان وتعرّض للاضطهاد والمضايقات يهزم برسالته إمبراطوريات الأكاسرة والجبابرة.

ليس الإيمان قضية صفقات، إنه قضية نفس بشرية ترتفع بها إلى الأوج بغضّ النظر عن العوارض والحوادث وصوارف الدهر، أو تنحطّ بها إلى الحضيض الأسفل من الخساسة والضعة والحقارة. هذا هو لبّ الإيمان وجوهره، وهذه هي الغاية الأسمى والأنبل والأكرم من وراء الرسالات.

إنها النفس البشرية وما أدراك ما النفس البشرية.

وكثيرٌ من الذين يتصدّون لميدان الدعوة اليوم يختزلون الإيمان في هذا الجانب النفعي المصلحي. وهم بهذا يدغدغون الآمال الدنيوية المحضة لأتباعهم، ويخاطبون حرص الناس على الشهوات. وهذا الخطاب يلقى آذانًا صاغية ويصادف رواجًا لما فيه من عوامل جذب وإغراء. ولكنه، في أفضل الأحوال، ينمّ عن فهم مغلوط للقضية الإيمانية كلها. وفي أحوالٍ أخرى يعبّر عن ذرائعية مفضوحة لا تتورّع عن توظيف أحطّ الوسائل للوصول إلى الجماهير.

ومن المفهوم أن يجد الخطاب النفعي المصلحي لدى الدعاة تربةَ خصبةً لدى الجماهير المبتلاة بأدواء معضلةٍ كالجهل والفقر والمرض. فهذه الجماهير المتروكة نهبًا للآفات الاجتماعية تفتك بها وللاستغلال الاقتصادي الجشع ينهش فيها نهشًا وللسياسات الظالمة التي ترسّخ حالة الرداءة العامة، هذه الجماهير تتعلّق بأي بصيص أمل وبأي بارقة رجاء، حتى لو كان مصدرها خطابًا دعويًا مليئًا بالخداع والتدليس.

وهذه الظاهرة ليست مقتصرة على ديانةٍ دون أخرى. فجزء كبير من الدعاة الإسلاميين المعاصرين يتبنّون نفس الخطاب النفعي المصلحي الذي ينتهجه الكثير من القساوسة ورجال الدين المسيحيين في كنائسهم ومنابرهم. وهناك سمة عامّة في هذه الفئة من رجال الدين: إنهم حريصون على المغانم المادية والمعنوية التي تدرّها عليهم الدعوة أكثر من حرصهم على ترسيخ الإيمان الصحيح وتدعيم أسسه في المجتمع وإرساء قاعدة من المفاهيم التي تنهض بالشعوب من سباتها.

وليس يحتاج المرء إلى كبير عناء لكي يلاحظ هذه الظاهرة. فأبرز الدعاة الإسلاميين المعاصرين يستخدمونها في برامجهم على الفضائيات وفي تسجيلاتهم ومقالاتهم التي تغزو الشبكة العنكبوتية. وفي نفس الوقت، نظرة سريعة إلى خطاب رجال الدين المسيحيين، وخصوصًا بالبروتستانت منهم، كفيلة بفضح الذرائعية النفعية التي تُوَظَّف لدغدغة عواطف الأتباع.

وما من طريقة لمكافحة هذه السوسة الذرائعية التي تنخر الجسد الإيماني إلا عبر الدواء الأنجع والأوحد: العلم. فالارتقاء بالمستوى الثقافي للجماهير يؤهّلها للابتعاد عن الخرافات والخزعبلات مهما كان مصدرها، ويضعها على الطريق الصحيح لفهم الحقائق الإيمانية دون زيغ ولا زغل. واليوم، بوجود الشبكة العنكبوتية، أصبحت المعلومات متوفّرة للعموم بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية. وصار الحصول على المعرفة أمرًا أيسر لمن توفّرت لديه الرغبة مع الإرادة.

فتحصيل المعارف ونشر الثقافة ومحو الأمية وتنشئة الجيل الجديد على حب المطالعة والبحث كلها أمور كفيلة بازدياد مستوى الوعي لدى الجماهير. وفي ازدياد الوعي تصبح مهمة خداع الجماهير مهمة صعبةً ومخاطرة لا تحمد عقباها. ومن أهم نتائج انتشار العلوم والمعارف والثقافة تحمّل المسؤولية والأخذ بالأسباب وعدم الاتكال على الغيبيات. وبهذا يتحسّن المستوى المعيشي تلقائيًا وينتعش الاقتصاد ويعمّ النفع في المجتمع. لذلك فإن أكبر خدمة يمكن أن يقدّمها غيور وحريص على القضية الإيمانية هي نشر المعرفة وتعميم الثقافة، فيتزوّد الإيمان بمناعةٍ ذاتية ويوضع في الإطار الذي أراده لنا الله سبحانه وتعالى وجاء مصداقه في كتبه وعبر أنبيائه ورسله عليهم السلام.

بقلم: الأستاذ بلال رامز بكري

شاركنا بتعليق






لا يوجد تعليقات بعد