إنّ الأخطار المحيطة بالعالم الإسلامي كثيرة ، والثغرات التي يعاني منها عديدة ، والأمراض والعلل متعددة ، والأمة بحاجة لمن يأخذ بيدها ليسد تلك الثغرات ، ويعالج تلك الأمراض ، ويبرئها من العلل ، ويحميها من الأخطار ، ولصنع ذلك لا بدّ من أن توضع أهداف عظام ، يعيش من أجلها الصفوة من الناس ، ويموتون من أجلها ، وكلما عظم هدف المرء زاد الجهد الذي يبذله من أجل الوصول إليه ، ويعظم الأجر إن شاء الله تعالى تبعاً لذلك ، والمُشاهد المُتابع لحال الصفوة يجد أن معظمهم ليس له إلاّ هدف الجماعة أو الهيئة أو المنظمة التي ينتسبون إليها ، وهذا أمر حسن ، ولكنه لا يكفي ؛ إذ لا بدّ من وضع هدف عظيم لكل أحد من الصفوة على حدة ؛ وذلك لأنّ الجماعات والهيئات يقوم على تنفيذ أهدافها عدد كبير ، فربما قام بمعظم العبء أفراد ، ورضي آخرون بشيء قليل من ذلك ، لذا فإنّ الميزان الحقيقي لعظم هدف المَرء هو ما يضعه لنفسه ، ويرتضيه ، ويظلّ إلى آخر حياته ساعياً في تحقيقه ، لا ما يضعه غيره له فقط ، وهذا يعود عليه بفوائد جمّة منها :
1- إدراك أهمية الوقت ، والمحافظة عليه ، وعدم تضييعه ، وهذا مكسب جليل .
2- مجاهدة نفسه بالتقليل من شهواتها ، وكبح جماحها ، حتّى يستطيع الوصول إلى هدفه الذي يريد .
3- دعاء الله تعالى والانكسار بين يديه ، والتضرع إليه أن يحقّق له ما يصبو إليه من هدف عظيم ، وهذا يجعله عبداً ربانياً موصولاً بالله تعالى على هيئة حسنة .
4- تسخير كل طاقاته وقدراته وملكاته ومواهبه في سبيل تحقيق هدفه الذي يريد ، وهذا يفجر فيها قدرات لم يكن يعهدها من نفسه قبل ذلك ، وهذا مهم ، إذ كم من الناس من لم يستغل ما أنعم الله عليه به من مواهب وملكات فدفنت معه .
5- العمل الدائب المُتّصل في سبيل الوصول إلى هدفه ، وفي هذا من الحسنات ما فيه إن شاء الله تعالى .
6- البعد عن دنايا الأمور وسفسافها ، إذا يستحيل أن يصل إلى هدف عظيم ، وهو مشغول بدنايا الأمور ، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (قال لي شيخ الإسلام يوماً في شيء من المُباح : إن هذا ينافي المَراتب العالية !! ) ، ولك أن تتخيل هذا المباح الذي كان قد تناوله ابن القيم قبل سبعة قرون ، وقارنه بما نتناوله اليوم من المباحات الشاغلات لنا عن الوصول لأهدافنا .
7- ترك الأثر العظيم بعد الموت ، وهذا ما يسعى إليه أكثر الصالحين ويتمنّونه ، ودونه صعاب جمة ، ومتاعب عظيمة ، لكن إن وصل إليه المرء ، وصل إلى شيء عظيم ، وليس أعظم من أن يكون العبد في قبره ، وتكتب له حسنات آثاره التي تركها في الأرض ، فما أحسن هذا .
ولئن سألت أكثر الصفوة من أهل الصحوة اليوم عن أهدافهم ، التي وضعوها لأنفسهم لوجدت أنّ أكثرهم ليس له هدف محدد!
وبعضهم هدفه هو هدف الهيئة أو الجماعة التي انتسب إليها فقط .
وبعضهم له هدف لكنّه محدود وصغير ، والهدف المحدود الصغير لا يصلح ، لأنّ المرء سرعان ما يصل إليه ، فإذا وصل برد وهدأ .
وبعضهم يمنّي النفس بهدف جليل عظيم ، لكن قعدت به همته ، وعجز عنه عمله القليل الذي يعمله للوصول إلى هدفه ، إذ كلّما عظم الهدف عظم العمل المُوصل إليه ، والجهد المبذول لتحقيقه ، فهذا الطبيب الفاضل عبدالرحمن السميط رحمه الله وضع لنفسه هدفاً عظيماً ، وصعباً جداً ، ألا وهو مقاومة المَدّ النصرانيّ في إفريقيا السوداء ، وإنقاذ أهلها من براثين الجهل والجوع ، فهو لأجل هذا عمل أكثر من خمس وثلاثين سنة رحمه الله تعالى ، وأحسب أنّه قد وصل إلى تحقيق جزء كبير من هدفه العظيم هذا ، الذي سقاه بعرقه وتعبه مدّة طويلة .
وهذه حماس وضعت لنفسها هدفاً جليلاً منذ قرابة ثلاثين سنة فوصلت إلى جزء كبير منه بتضحيات عظيمة ، ودماء غزيرة عزيزة ، وآلام ودموع ، وآمال كانت هي الشموع ، وهناك شخصيات كثيرة في التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي ، وصلت إلى أهداف عظيمة ، وضعتها لأنفسها ، لكنّ وصولها كان بعد جهد كبير ، وعمل متواصل ، وارتفاع عن الدنايا ، والتصاق بالمعالي ، وإن شئت عددت بعض عظمائنا في التاريخ القريب والبعيد : فهذا الفاروق عمر رضي الله عنه ، وعمر بن عبدالعزيز ، وعبدالرحمن الداخل ، وحجّة الإسلام الإمام الغزاليّ ، ونور الدين زنكي ، وصلاح الدين الأيوبي ، ومحمّد الفاتح ، وأورانك زيب عالم كير ، والإمام السنوسيّ ، وعبد القادر الجزائريّ ، والإمام عبد الحميد بن باديس ، وعزّ الدين القسّام ، وعبدالكريم الخطابيّ .. وعدد كبير ، لا يحصى لهم آخر ، كلّهم قد عمل طويلاً ، وربما وصل إلى هدفه أو إلى جزء منه ، لكنّه قد عمل عملاً عظيماً ، ثمّ سلّم الراية لمن بعده .
فلو أنّ الصفوة من الناس اليوم وضعوا لأنفسهم أهدافاً جليلة عظيمة ، يسعون لتحقيقها ، لتغير وجه الأرض ، ولتحول مسار التاريخ المعاصر لصالحهم ، بعد توفيق الله تعالى لهم ، وأزعم لو أنّ عشر معشارهم – أي واحداً بالمائة – منهم صنع ذلك ، لتغيّر التاريخ ، وهل نستهين بالواحد بالمائة وعدد الصفوة اليوم يقدر ببضعة ملايين ؟!
وأزعم أن غفلة صفوة الناس عن هذا لهو مرض وأيّ مرض، وعائق وأيّ عائق عن الوصول إلى ما يرومون ويأملون ، وهل الصفوة مشغولون بما هو أهمّ من ذلك وأولى .؟! والله المُستعان .
بقلم: د. محمد موسى الشريف (بتصرف وزيادة)
لا يوجد تعليقات بعد